لا أحد يستطيع أن ينكر الدور المهم لجهاز الشرطة في حفظ أمن المجتمع واستقراره, ولا أحد يستطيع أن يتجاهل معاناة رجل الشرطة في تحقيق هذا الهدف, سواء بالعمل في ظروف أمنية صعبة, حيث مواطن الخطر, أو جوية متقلبة, حيث السهر بالعراء, في عز البرد, أو تحت لهيب الشمس نهارا, ولا أحد يستطيع أن يوفي الشرطة حقها إذا ما تعاملت- وهذا هو الأغلب الأعم مع مسجلين خطر هنا, أو أرباب سوابق هناك, فحينذاك يقدمون أرواحهم فداء للوطن والمواطن حتى يتحقق هدف الأمن والاستقرار. إذن، نحن أمام الجهاز الأهم والأعظم في حياتنا, مهما حدث من تجاوزات, ومهما شاب ذلك من أخطاء, والحقيقة الواضحة, هي أننا كنا نعيش سلسلة من التجاوزات, في كل مسارات حياتنا, خلال عقود ماضية, كان من المهم أن نتجاوزها على مدى العامين الماضيين, في ظل ما حدث من تطور في حياتنا السياسية, إلا أنه قد بدا واضحا, أيضا, أن هناك من لا يرغب في إعادة بناء جهاز الشرطة من جديد على أسس قانونية وموضوعية, بل هناك من لا يريد لا الأمن ولا الاستقرار, والدليل على ذلك تلك الممارسات اليومية التي تستهدف الشرطة ومركباتها عن عمد وسابق إصرار. فإذا كان جهاز الشرطة قد ضحى بنحو مائتين من خيرة أبنائه منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن, نحتسبهم عند الله شهداء, بالإضافة إلى نحو ستة آلاف مصاب, وإذا كان قد خسر من مركباته نحو الأربعة آلاف مركبة, فإن الغريب في الأمر هو ذلك الاستهداف المتعمد لرجال الشرطة ومركباتها في الآونة الأخيرة, وبالتزامن, في محافظات عدة, حيث لا يكاد يمر يوم إلا وتتواتر الأنباء عن شهيد أو أكثر, أو عن حرق مركبة أو أكثر, وسط إصرار من رجال الشرطة على القيام بمهامهم, إيمانا منهم بأهمية هذا الدور, الذي أدوا عليه قسم اليمين. والغريب في الأمر, أيضا, أن إطلاق الرصاص على رجل الشرطة, أو إحراق سياراتها يتم بدم بارد, حيث تتواتر الصور برقصات يقوم بها الجناة, عقب كل جريمة من هذا النوع, دون استنكار واضح من القوى السياسية الفاعلة على الساحة الآن, لسبب معلوم, هو عدم استعداء هؤلاء الجناة, الذين هم, في حقيقة الأمر, مجرمون في حق الوطن, وفي حق أمن واستقرار البلاد, بل في حق أنفسهم, والغريب, أيضا, أن أجهزة الشرطة قد استسلمت لمثل هذه الأعمال الشيطانية, فلم تعد تبحث عن الجناة, واستبدلت ذلك بالولولة, ولطم الخدود أحيانا, والاحتجاجات, والاعتصامات, وإغلاق أبواب أقسام الشرطة بالجنازير أحيانا أخرى, في نوع جديد من الممارسات السلبية, يضاف إلى سلسلة مآسينا اليومية! لم يعد ممكنا, بأي حال, استمرار هذا الوضع, الذي هو في حقيقة الأمر خصم من رصيد أمن المواطن وأمانه, ولم يعد ممكنا لخزينة الدولة أن تتحمل ذلك النزيف من الخسائر المادية اليومية, كما لم يعد ممكنا قبول صمت الدولة الرسمية تجاه هذه الممارسات التي تبعث برسائل متتالية إلى العالم الخارجي, مؤداها أننا شعب همجي لا يستحق الاحترام, وبالتالي لم يعد ممكنا القبول بعدم تسليح رجل الشرطة في مواجهة مسلحين جاهروا بأسلحتهم في الميادين والطرقات, وإلا فإننا سوف نظل أسرى هذه الفوضى إلى ما لا نهاية, أو إلى أن نستيقظ على اختفاء رجل الشرطة من حياتنا, ونصبح جميعا في قبضة البلطجة, والعصابات المنظمة, وقد تتعذر حينذاك استعادة الأمن, في ظل وجود أرقام تتحدث عن عشرة ملايين قطعة سلاح في بر مصر, معظمها بحوزة مائة ألف بلطجي مسجلين رسميا, ومثل هذا الرقم خارج التسجيل الرسمي, ناهيك عما يجتاز الحدود يوميا من اتجاهاتها المختلفة, ولم يتم الكشف حتى الآن عن الأطراف التي تقوم بعمليات التهريب هذه, أو الأطراف التي يصل إليها, على الرغم من أن الأمر قد وصل إلى إعداد مزادات أسبوعية على بيع الأسلحة ببعض المناطق- في عز الظهر- وأصبحت هناك أسعار معلنة للأنواع المختلفة من الأسلحة المتطورة, من إنتاج الشرق والغرب, التي أصبحت تسحب من رصيد العملات الصعبة ما يفوق استيراد المواد الغذائية. ووسط هذه الأجواء.. يقف رجل الشرطة متجردا من عناصر تأمينه, ومتحملا إهانات وبصق وحجارة ومولوتوف البلطجية إلى أن تغتاله رصاصة غادرة في الرأس أو الصدر, سوف ينتفض معها زملاؤه, بالتأكيد, إما بالامتناع عن العمل, كما هو حادث الآن في أكثر من موقع, وإما بالحصول على سلاح ما للثأر لزميلهم, مثلما حدث في مدينة السويس مؤخرا, وهي أمور تحتاج, في كل الأحوال, إلى إعادة صياغة, سواء للعلاقة بين المواطن ورجل الشرطة, أو لمهام قوات الشرطة بصفة عامة, وهذه هي مهمة الدولة, التي يجب ألا تدخر جهدا تجاه حل هذه المعضلة بأسرع ما يمكن, في ضوء ما تشهده البلاد حاليا من كوارث ونكبات, ضاعت معها حقوق رجال الشرطة أحياء كانوا أو أمواتا, وذلك بعد أن أصبح السلاح حقا للبلطجي, في الوقت الذي تم حرمان عنصر الأمن منه, وبعد أن أصبحت أيضا الشهادة ومعاش الشهداء حقا لأرباب السوابق والخطيرين على المجتمع, في الوقت الذي تجاهلت فيه الدولة أبناءها من رجال الشرطة الشرفاء الذين سقطوا وهم يدافعون عن منشآت الدولة ومقوماتها, مخلفين وراءهم أرامل وأيتاما وآباء وأمهات, وكانت هذه المأساة, سواء في الحياة أو الممات, بمثابة رسالة صادمة إلى كل رجال الشرطة الذين آثروا الآن السلبية, أو عدم التفاعل مع الأحداث كما يجب. يجب أن نعترف.. إذن, بأن قضية الشرطة ورجالاتها قد تاهت طوال العامين الماضيين, وسط ركام قضايانا الكئيبة, السياسية منها, والاقتصادية, والاجتماعية, ويجب أن نعترف بأن هذه القضية بوضعها الحالي كانت سببا رئيسيا في تفاقم حالة الانفلات والفوضى, التي يئن منها مجتمعنا الآن, ويجب أن نعترف بأن هناك قوى تقاوم إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح لأسباب عديدة, إلا أنه ما ليس مقبولا هو أن تظل الدولة الرسمية تتعايش مع هذه الأوضاع تجنبا لأزمات مع هذا الطرف أو ذاك, أو أن يكون ذلك من باب الثأر وتصفية الحسابات أيضا, وهو طامة كبرى, سوف يكتوي بنيرانها كل من أسهم فيها أو حتى تخاذل أمامها, وذلك لأن مقتل أحد الضباط أمام أحد البنوك بهدف السرقة هو قتل لكل أفراد المجتمع واقتصاده, وأمنه, واستقراره, كما أن تعقب إحدى سيارات الشرطة لتهريب متهمين بداخلها, ثم حرق السيارة, هو امتهان لكرامة الوطن, وشرفه وهيبته, وسمعته, كما أن استهداف منشأة أمنية بالحرق أو الهدم أو التخريب, هو تدمير لكل أوصال المجتمع, ومقوماته, ومصالح المواطنين, وقضاياهم, ومن هنا, فإن المستهدف هو مصر- كل مصر أمنا واستقرارا واقتصادا, وهو ما عاناه المجتمع ككل طوال العامين الماضيين, إلا أنه قد بدا واضحا أن ذلك لم يطفئ نيران الأحقاد داخل بعض المارقين سياسيا وجنائيا. نحن لن نقر أبدا بحق الشرطة في التغول على حقوق المواطن الدستورية والقانونية, إلا أننا في الوقت نفسه لا يمكن أن نقبل بهذه التجاوزات في حق رجل الشرطة, التي بلغت أوجها خلال العامين الماضيين, على الرغم من أن العكس كان يجب أن يحدث, بمعنى إقامة دولة القانون, وتفعيل مواد الدستور, وإعلاء قيم الحق والعدالة, ونحن لن نقر أبدا بتجاوزات شرطية داخل الأقسام أو خارجها, إلا أننا أيضا لا يمكن أن نقبل بسيادة البلطجة في الميادين والشوارع, تحت سمع وبصر المسئولين, وعلى اعتبار أن ذلك من تبعات الثورة, أو على اعتبار أنها أوضاع طبيعية بعد الثورات, كما نسمع التبريرات دائما, فما يحدث الآن لا علاقة له بالثورة, وما يجري الآن من استهداف لرجال الشرطة لا يمكن أن يكون له علاقة بالثوار, ولذلك فإن الوضع الطبيعي, هو إطلاق يد الشرطة في التعامل مع هذه الظاهرة بالطريقة التي تحفظ كرامة الوطن وأمنه, حتى إذا تطلب ذلك العودة إلى القوانين الاستثنائية, التي بدا واضحا أنه لا مفر منها, ونحن على أبواب انتخابات برلمانية يتوقع البعض مع اقترابها مزيدا من أعمال العنف والغوغاء, فما بالنا إذا تعلق الأمر باستهداف الشرطة ورجالها؟.. وهذه القوانين الاستثنائية, سوف يتم تطبيقها بالتأكيد على الخارجين عن القانون فقط, من حملة السلاح, ومشعلي النيران, والمفسدين في الأرض. بالتأكيد.. سوف ينتفض المحرضون, حين العودة إلى مثل هذه القوانين الاستثنائية, وبالتأكيد سوف يتبارى المتحذلقون, وينبري المتشدقون بحقوق الإنسان والحيوان, شعرا ونثرا وزجلا, إلا أنه العلاج المر, الذي لا مناص عنه في هذه المرحلة, التي لم تعد تحتمل مثل هذه المزايدات, فتفعيل القانون لا يخشى منه سوى المخربين, في الوقت الذي يستفيد منه عامة الشعب والشرفاء, وتفعيل القانون لا ينال من الأسوياء, في الوقت الذي يضفي فيه مزيدا من الأمن والأمان على حياة المواطنين البسطاء, وبالتالي فنحن في حاجة إلى تدخل حاسم للدولة يضمن للمواطن العيش بحرية, ولرجل الشرطة حياة كريمة, وتبا لكل ما من شأنه إثارة القلاقل في المجتمع, حتى لو كان تحت غطاء الثورة والديمقراطية, وتبا لكل ما من شأنه ترويع المجتمع, حتى لو كان تحت ستار حرية الرأي والتعبير, ومن هنا فإن المأزق الراهن لرجال الشرطة هو مسئولية الدولة, التي يجب أن تبادر إلى حسمه, مهما يتطلب ذلك من تضحيات, فهي التي تراخت, حتى وصلت الأمور إلى هذا الحد من الشطط, وهي التي تنازلت, حتى أصبحنا نتسول الأمن, وأصبح على كل مواطن أن يحمي نفسه بنفسه, باقتناء السلاح تارة, وبتأجير بلطجية لحمايته تارة أخرى, حتى أصبحت البلطجة سوقا رائجة, بأسعار معلنة سلفا, وإتاوات محددة مسبقا. الحقيقة المؤلمة.. التي نعيشها الآن, هي أننا أمام مفسدين في الأرض, ينطبق عليهم قول ربنا سبحانه: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض".. وهذه الحقيقة يجب التعامل معها على أرض الواقع بمنأى عن التجاذبات السياسية أو الخلافات الحزبية, فلا هي هذه ولا تلك, ولن تكون أبدا, إلا أنها قد وجدت أرضا خصبة تحت غطاء سياسي مقيت, ووجدت بيئة مساعدة للانتشار السرطاني, في ظل تهاون أجهزة الدولة وتراخيها, ووجدت ضالتها في ظل صمت شعبي عام, لم يتعامل معها بأكثر من الإنكار والاستنكار على الرغم من أن الأمر كان يتطلب ما هو أكثر من ذلك بكثير, فقد سدد المجتمع فاتورة قاسية, من قطع الطرق, ووسائل المواصلات, وأعمال العنف والتخريب, إلا أنه يجب عدم السماح أبدا بتسديد مزيد من الفواتير على حساب رجال الأمن, وذلك لأنه سوف يصب في النهاية على رءوسنا جميعا, إذا نحن سمحنا بذلك, لأن عز رجل الأمن هو أمن لنا جميعا, والانتقاص من قدره, سوف يكون انتقاصا من أمننا جميعا, والنيل منه, سوف يرهقنا جميعا, وما حالة انفلات الشارع من بلطجة وباعة جائلين وخطف واغتصاب وقطع طرق, إلا أكبر دليل على ذلك. على أي حال.. إذا كنا نكن لجهاز الشرطة كل التقدير على تحمل هذه المصاعب في هذه الآونة, فإننا سوف نظل نذكرهم بأن هذا هو واجب هذه المهنة السامية في أوقات الرخاء, فما بالنا بأوقات الشدة؟, وها هي أوقات الشدة التي نحتاج فيها إلى جهود كل رجال الأمن المخلصين, من أجل وطن كان يمكن أن يترنح على شفا الهاوية دون هذه الجهود, التي تلاقت مع جهود قواتنا المسلحة الباسلة أيضا, والتي نحن على يقين من أنها لن تترك الساحة للمخربين يعيثون في الأرض فسادا, وذلك من خلال تعاون وثيق مع قوات الشرطة, فهؤلاء حماة الجبهة الداخلية, وأولئك حماة الجبهة الخارجية, وهؤلاء وأولئك عز مصر وفخرها, وسوف تسجل كتب التاريخ كل هذه المواقف بأحرف من نور, أما وإن كانت قد اختلطت الأوراق لبعض الوقت, فإن ذلك لن يطول, وسوف تنقشع الظلمة, وسيبزغ فجر الحقيقة, إن عاجلا أو آجلا, لننشد جميعا الأغاني والأهازيج الوطنية, التي تعبر عن الشكر والامتنان لهؤلاء وأولئك, والتي تضع مصر على الخريطة العالمية في موقعها الطبيعي الذي تستحق, أي في مصاف الشعوب المتحضرة, وحين ذلك لن تكون الشرطة المصرية أبدا في قفص الاتهام. نقلا عن جريدة الأهرام