أصبح ميدان التحرير بحالته الراهنة نموذجا صارخا لحالة الوهن التي وصلت إليها البلاد حاليا, فما يحدث في الميدان الآن ليس له علاقة بالثورة, ولا ما يدور فيه له علاقة بالحرية, أو الديمقراطية, ولا ما يتعاطى به له علاقة بالأخلاق, فقط هو فساد, وإفساد, هو خلل في قيادة البلاد, هو بلطجة وغوغاء, هو انفلات بغطاء سياسي, طوال ساعات النهار, وآخر إعلامي, طوال ساعات الليل. وحينما قررت الدولة تدارك الأمر, نزلت قوات شرطية لتسيير الحركة بالميدان, فتم طردها بمولوتوف البلطجية, ودعم النخبة السياسية, وحينما أرادت أن تتحاور جلس أحد قادة وزارة الداخلية مع ممثلي الميدان على غرار: شاهر, ووائل, وتامر, ورشا, وتوتو, فلم يفلح, بعد أن أملوا عليه من الشروط ما أملوا, فعاد الرجل بخفي حنين, في دليل آخر على حالة الاهتراء التي وصلت إليها سلطة البلاد, وحالة الضعف التي تعيشها القيادة بوجه عام. هي إذن أزمة حقيقية, يعيشها المجتمع مع البلطجة, والقوى السياسية, في آن واحد, فالبلطجية قد وجدوا في الحالة الراهنة أرضا خصبة لتحقيق غاياتهم, والقوى السياسية لم تتبرأ حتى الآن مما يحدث هناك, في إشارة واضحة إلى الدعم الذي يتلقاه أصحاب السوابق, والمسجلون خطر, المرابطون على مداخل أهم ميادين القاهرة, وأكثرها حيوية, حيث تأثير ذلك الإغلاق على حركة المرور في أنحاء العاصمة, من أقصاها إلى أقصاها, ناهيك عن تعطل مصالح المواطنين في هذه البقعة, الأكثر أهمية لمصالح الناس. الغريب في الأمر, أنه لا يوجد في الأفق ما يشير إلى أن جديدا ما على الساحة قد يزيح هذه الغمة, سواء بفعل قوات الأمن, التي يقع على عاتقها مثل هذه القضايا, أو بفعل التفاوض مع شاهر وأخواته, في ظل مواءمات ترى السلطة الرسمية أنها مطلوبة الآن, دون النظر لحالة الغضب التي تنتاب الشارع جراء هذه الممارسات, التي كان يجب أن تكون مواجهتها في مقدمة سلم أولويات الحكومة, وما ميدان التحرير إلا نموذج لحالة الوطن ككل, حيث الكلمة العليا للبلطجة, وحيث السلبية لسان حال الحكومة. وأعتقد أن زيارة واحدة إلى ميدان التحرير, أو المناطق المحيطة به, سوف يكتشف معها الزائر حجم الأزمة, بعد أن يصطدم بأشكال من البشر, لا شأن لهم لا بالثورة ولا بالثوار, وبعد أن يصطدم بعدد من الشوارع المغلقة التي لا يمكن أن يتخيلها عقل, وبعد أن يكتشف سوقا رائجة هناك لتجارة البشر, والمخدرات, والسلاح, وكل ما هو ممنوع شرعا وقانونا, تحت سمع وبصر سلطة الأمن, وليس ذلك فقط, بل على بعد عدة أمتار من مقر الحكومة والبرلمان في آن واحد, لتطرح الأسئلة نفسها, وهي: هل هذه هي الثورة المصرية؟!, وهل هذه هي ثمار الثورة؟!, وهل هؤلاء هم الثوار؟!, وإذا كانت بعض القوى السياسية قد اعتمدت على مثل هؤلاء البلطجية في تحقيق هدف إغلاق الميدان, فهل هذا هو الأسلوب الثوري المتحضر في التعامل مع الأشياء ؟!, وإذا كان هؤلاء يتلقون أجرا يوميا, سواء بالمال أو الترامادول, للقيام بهذا العمل, فهل هذا مقبول؟, وإذا كانت الحقائق أصبحت واضحة للعيان إلى هذا الحد, وهي بالطبع أكثر وضوحا لأجهزة الدولة, فلماذا لا يتم التعامل مع الحدث كما يجب, إن عنفا فعنف, وإن شرا فشر؟!. بالتأكيد.. يقع على عاتق الدولة تسهيل مصالح المواطنين, ويقع على عاتق الدولة تبسيط حركة السير, وحل مشاكل المرور بصفة عامة, التي كانت ضمن أولويات الرئيس في برنامج المائة يوم, ويقع على عاتق الدولة مواجهة البلطجة والبلطجية دون الاعتماد في ذلك على قيام الشعب بفعل ذلك بنفسه, مثلما حدث من مصادمات أمام مجمع التحرير, حينما أغلقه بعض البلطجية, ويقع على عاتق الدولة تأمين حياة الناس, وحرية حركتهم في الشوارع والطرقات, دون دفع إتاوات مقابل المرور, مثلما يحدث في الميدان الآن, ويقع على عاتق الدولة حماية مترو الأنفاق والكباري العلوية من العبث والإغلاق, مثلما يحدث بين الحين والآخر, ويقع على عاتق الدولة طمأنة المواطن على مستقبله, من خلال الشعور بآفاق أكثر إشراقا بعد عامين من المعاناة, أما أن تصبح مصالح المواطن ومتطلباته اليومية رهنا بمواءمات سياسية, أو ضحية لضعف الدولة, فهو أمر أكثر خطورة على استقرار النظام السياسي من أي توازنات أخرى تتحسب للبلطجة على حساب المواطن الشريف, الذي لم يطالب بأكثر من الأمن والاستقرار. بالفعل.. ميدان التحرير ما هو إلا صورة تجسد ما يجري على أرض الواقع الآن في بر مصر بمختلف أقاليمه, إلا أنه النموذج الأكثر إيلاما, كون العاصمة لا تحتمل الهراء, لما بها من تكدس بشري, وأزمة مرور منقطعي النظير, فالحالة تتكرر يوميا, وبالتزامن, في معظم المحافظات, والحالة ضربت في الصميم قطاعي الاستثمار والسياحة, فلا المستثمر سوف يفكر مجرد التفكير في اللجوء إلى بلد هذا هو حاله, ولا السائح سوف يقدم, بأي حال, إلى بلد هذا هو وضعه, ناهيك عن أن أبناء الوطن أنفسهم قد ضجروا من هذه الأوضاع, فكان الهروب الكبير للبشر والاستثمارات في آن واحد, في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى هذا وذاك, إلا أن الطامة الكبرى هي أن يستمر هذا الوضع أكثر من ذلك, وللأسف هناك قوى ترغب بل تعمل على أن يستمر, ولا تخفي ذلك في خطابها الرسمي, بل تنفق في سبيل ذلك الكثير من المال, المحلي منه والأجنبي, وما قضايا التمويل الأجنبي المغلقة والمفتوحة إلا أكبر دليل على ذلك, وللأسف, مازالت الدولة سداحا مداحا أمام الممولين والمرتزقة على السواء. لقد شاءت الظروف أن يمر كاتب هذه السطور على ميدان التحرير منتصف هذا الأسبوع في الطريق إلى مجلس الوزراء, للقاء رئيس مجلس الوزراء, ضمن رؤساء تحرير الصحف, وكانت المأساة هي أن نظل نجوب شوارع المنطقة طولا وعرضا على مدى ساعة كاملة, حتى نستطيع أن نصل إلى مقر الحكومة, حيث في نهاية كل شارع مواجه للميدان نواجه بأحد الخارجين عن القانون رافضا مرور السيارة, بدعوى أن الميدان مغلق طبعا بأمر البلطجية لنعود أدراجنا من حيث أتينا, ولست هنا في مجال إلقاء الضوء على الحالة العقلية, أو المزاجية, لهذا أو ذاك, من فرط ما تناول من مخدر أو منشط, وكان السؤال الذي طرحته على الدكتور هشام قنديل, رئيس مجلس الوزراء, خلال اللقاء, هو: إلى متى سيظل الميدان بحالته هذه, في ظل المعاناة اليومية لمئات الآلاف من قاصديه, ناهيك عن مئات الآلاف من سكان المنطقة؟!, وكانت الإجابة: إن هذه هي حال الثورات, وما يعقبها دائما من آثار قد تكون سلبية, إلا أنه طالب القوى السياسية برفع الغطاء عن هؤلاء حتى يمكن التعامل معهم... ولا تعليق. ما أود تأكيده.. هو أنه لا يعقل بأي حال من الأحوال إطلاق مصطلح متظاهرين على قطاع طرق, أو ثوار على مخربين, أو قوى ثورية على مشاغبين, أو قوى سياسية على رافضين للحوار, بمعنى أنه من الضروري, وفي هذه المرحلة على الأخص, المسارعة بتحديد تعريفات صريحة وواضحة لكل هذه المصطلحات, ثم التعامل مع مجريات الأحداث وفقا لهذه المحددات, وتطبيق القانون حينذاك, بما يضمن استمرار حركة العمل والإنتاج, مع الأخذ في الاعتبار أن المواثيق الدولية, وخاصة ما يتعلق منها بحقوق الإنسان, لا تقر على الإطلاق مثل هذه الأوضاع, ولنا في الدول الكبرى المتشدقة بالديمقراطية الأسوة, وكيف تتعامل مع مثل هذا السفه, سواء من خلال أجهزة الأمن, أو من خلال تطبيق القانون, وأذكر هنا ما قاله رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون في هذا الصدد: إن الأمر إذا تعلق بأمن بلاده, فلتذهب حقوق الإنسان إلى الجحيم!, ونحن هنا لا نطلب تجاوز حقوق الإنسان, ولكن على العكس, تفعيل مواثيق حقوق الإنسان في حالتنا الراهنة. نحن إذن.. أمام أوضاع الحلال فيها بين كما الحرام بين, إلا أن تردد سلطة الدولة, وتخاذلها يجعل المواطن في النهاية يدفع ثمن هذا التخاذل, وذلك التردد, من ماله, ومعنوياته, ووقته, وجهده, بالإضافة إلى أن اقتصاد الدولة يسدد ضريبة يومية لهذا السلوك المشين, وسمعة الدولة تسدد فاتورة يومية لهذه الممارسات, والأمن العام للوطن ككل يسدد وقائع يومية من الخطف والنهب والاغتصاب والسرقة وكل ذلك تحت عنوان "الثورة", وذلك لأن ميدان التحرير, هو الشرارة التي تنطلق منها الآن كل مظاهر الانفلات في المجتمع, وهو ما يدركه جيدا الحريصون على إشعاله, أو استمراره مشتعلا, وهو ما يجعلنا أيضا نصر على المطالبة بإنهاء مظاهر الفوضى هذه بالميدان, مهما تكن العواقب, وهذا هو دور الدولة الرسمية, التي يجب أن تتحمل مسئولياتها فورا, ودون تردد, وسوف يصفق الناس كل الناس للحكومة القوية التي تحمي مصالحهم, وتعمل على استقرارهم, أما الحكومة الضعيفة, فلن تجد لها مكانا, لا في أوساط الناس, ولا في قلوبهم, وربما كان هذا هو سر الأزمة التي تعيشها الحكومة الآن. وإذا كنا نطالب مجلس الشورى بالإسراع في إنجاز قانون حق التظاهر السلمي المحال إليه من الحكومة, فإن الأهم من إصدار القانون هو الحزم في تطبيقه, وإلا فإننا ندور في حلقة مفرغة لن يحترم المواطن معها لا القوانين ولا القرارات.. وإذا كنا نطالب وزارة الداخلية بتحمل مسئوليتها تجاه مثل هذه الأوضاع, فإننا سوف نطالب مجلس الشورى بعدم غل يد الداخلية في التعامل مع هذا الشأن وغيره من الممارسات المعوقة لحركة المجتمع.. وإذا كنا نطالب المواطنين بالعودة إلى العمل والإنتاج, واستثمار أموالهم داخل وطنهم, فإن من حق كل مواطن أن يرى أولا أن الدولة قادرة على تحقيق الأمن له ولأسرته, وتحقيق الاستقرار للشارع وللوطن بصفة عامة.. وفي الوقت نفسه, إذا كنا نطالب غير المصريين بالعودة إلى مصر, مستثمرين وسياحا, فمن حقهم أن يأمنوا أولا على أنفسهم, وعلى أموالهم, وذلك بالقضاء على كل مظاهر الفوضى في المجتمع, التي يقودها الآن حفنة من الغوغاء تصدروا المشهد في الشارع تارة, ووسائل الإعلام للأسف تارة أخرى. ولأن الأمر كذلك.. فإننا سوف نظل نؤكد أن الكرة الآن في ملعب السلطة الرسمية, فإما أن تثبت أنها تستطيع إدارة دفة البلاد إلى مستقبل أفضل, وإما أن المواطن هو الذي سوف يحكم عليها بالفشل, ليس من خلال استطلاعات رأي شفهية, أو تجمعات هنا, واحتجاجات هناك, وإنما من خلال صناديق انتخابات مرتقبة, ربما ستكون بمثابة القول الفصل في الأداء, الذي أجد مترديا حتى الآن, إذا لم يتم تدارك الأمر بقوة وفاعلية في المدى القريب, على كل المستويات الأمنية, والاقتصادية, والاجتماعية, وخاصة أنه لم يعد خافيا على أحد, أن هذه الأوضاع الثلاثة أصبحت على شفا الهاوية, وربما كانت الشفافية هنا عاملا مساعدا في تحقيق الهدف, حتى يدرك المواطن خطورة الموقف وأهمية دوره مع الحكومة يدا بيد في الخروج من ذلك النفق المظلم, وذلك بالتصدي للبلطجة والبلطجية, ومن يقفون خلفهم, حتى لو كانوا يرفعون شعار "الثورة", فالنيات أصبحت واضحة, والمؤامرات لم تعد خافية. على أي حال.. ظاهرة ميدان التحرير هذه, بوضعها الحالي, لم يعد يقبل بها أي مواطن طبيعي, ولن يقبل بها سوى المستفيدين منها, سواء كانوا من البلطجية, أو من يدعمونهم, فهي ظاهرة تثير الاستياء, وتمعن في نشر الفوضى ليس إلا, وقد أصبحت تمثل ارتباكا يوميا في حياة ومصالح المواطنين, وإذا كان استمرارها سيظل رهنا بإعلان القوى السياسية التنصل أو التبرؤ منها, فهي ذريعة لم تعد مقبولة بأي حال, وإذا رأى البعض في هذا الخطاب استعداء للدولة على هؤلاء أو أولئك, فهو نعم, استعداء, فالأمر لم يعد يحتمل المزايدة, كما أن مصالح الناس لم تعد تحتمل التسويف أو التخاذل, كما أن سمعة مصر لم تعد تحتمل المهادنة, أما إذا كانت السلطات الرسمية سوف تظل تتعامل مع هذه الأوضاع على أنها أمور طبيعية, فعليها إذن أن تتحمل العواقب, والعواقب لن تكون في ميدان التحرير فقط, إلا أنه وحده سيظل شاهدا ونموذجا لضعف الدولة. نقلا عن جريدة الأهرام