جامعة الأخوين المغربية الموجودة في مدينة إفران الجبلية جامعة على الطراز الأميركي تبعد عن مدينة فاس ستين كيلومتراً، وقد أراد منها الحسن الثاني عندما أنشأها سنة 1995 أن تكون منارة علمية على شاكلة الجامعات الأنجلوساكسونية.. وفي سنة 1999 كانت السيدة الأولى للولايات المتحدة الأميركية هيلاري كلينتون ضيفة شرف تسليم دبلومات المتخرجين وألقت آنذاك خطاباً كشفت فيه عن بعد نظر امرأة دولة حكيمة مشيدة بدور التعليم والبحث العلمي في الوطن العربي، وعلاقة أميركا المستقبلية بالوطن العربي وكأنها تبشر «بحقبة جديدة لأميركا»، وهو ما أكدته بالفعل في أول خطاب لها وفي يومها الأول على رأس الدبلوماسية الأميركية في مبنى الخارجية في واشنطن... وهي امرأة ذكية جداً استطاعت أن تؤسس إلى جانب «القوة الناعمة» التي تبناها الرئيس الأميركي أوباما مفهوم «القوة الذكية»... وهي امرأة موهوبة تجيد العمل الدبلوماسي، وهي معروفة بضحكتها الرنانة التي تجعل كل من بجانبها يتناغم مع ضحكتها ويسترسل معها في نفس التجاوب، كما أنها تجيد «دبلوماسية الطاولة» و« دبلوماسية المائدة» التي تستطيع أن تحل ما لا يمكن أن تحله الدبابات والصواريخ... وهي معروفة بحرارة استقبالها وبدفئ مشاعرها التي تجعل كل من تستقبله يتقرب منها؛ وهي امرأة لا تمل العمل المستمر وتهتم بتفاصيل التفاصيل دون هوادة، فخلال أربع سنوات في الخارجية قطعت هيلاري نحو مليون ميل، وزارت 112 بلداً، وقضت نحو 500 يوم على متن الطائرة الرئاسية، إذ سافرت أكثر من أي رئيس أميركي وأكثر من أي وزير خارجية سبقها بما في ذلك كيسنجر، وعلى رغم مختلف التناقضات التي كانت تجمعها مع أوباما، فقد استطاعت خلق جو عمل مؤسساتي وطني مثالي. فهذه السياسية البيضاء التي تنحدر من عائلة شبه أرستقراطية من ضواحي شيكاغو استطاعت أن تعمل يداً بيد مع محام أسود كان يدافع عن حقوق الفقراء في قلب شيكاغو نفسها، وقد أثبتت ولاءها لأوباما إلى درجة أنها تبنت تسيير ملف الهجوم على القنصلية الأميركية ببنغازي الذي قتل فيه أربعة من الموظفين الدبلوماسيين الأميركيين، وهو أسوأ حدث وقع خلال ولايتها الدبلوماسية الأميركية، صحيح أن كلينتون لم تحقق ما حققه كيسنجر في مبادراته الخارجية خاصة تجاه الصين الشعبية (الانفتاح) وفي سياساته نحو الاتحاد السوفييتي (التعايش)، إلا أنها دافعت عن الديمقراطية في دول العالم الثالث، ودافعت عن بلدها بعد سنوات حكم بوش الإبن وما تبع ذلك من أضرار في سياسته الخارجية المقرونة ب«القوة الخشنة» في العراق وأفغانستان ومناطق عديدة من العالم؛ وخطابها في إفران لسنة 1999 عن التربية والتعليم جسدته بعد عقد من الزمن في دعواتها إلى «القوة الذكية» بنشر التعليم وتطوير المرأة ونقل التكنولوجيا والاستفادة منها... صحيح أن الحياة تجارب، وأن الدبلوماسية هي تجربة ولكنها أولا وقبل كل شيء حكمة وقناعة وتربية -حكمتها وتربيتها جعلتها تؤمن أيما إيمان بضرورة الدفاع عن أولويات المرحلة، وهي أولويات السياسة الخارجية الأميركية في نظام دولي بدأت تتغير بنوده وقواعده ولمساته... والمسؤولية في الدبلوماسية الأميركية على عاتق الرئيس الأميركي ووزير خارجيته... ولكن إيصال الأفكار وتفعيل الاستراتيجية في الميدان يكون على عاتق وزير الخارجية تحديداً؛ فإما أن يقنع أو أن يفشل... وكل من خالط السيدة كلينتون يتعجب من قدرتها على الإقناع وعلى الحديث الطويل والفصيح الذي لا يمل منه إنسان. لقد ورث أوباما من سلفه ثقلا خارجياً صعباً جداً، وأزاحه من البيت الأبيض من خلال حملته الانتخابية القاضية بإصلاح سياسته الخارجية في ميادين حربية أرسل إليها جنود أميركيون هم في غنى عنها: فمنذ سنة سحبت أميركا قواتها من العراق وبعد سنة أي في أواخر سنة 2014 ستسحب قوتها من أفغانستان، والنتائج الأمنية والسياسية في البلدين كارثية... وأتذكر أنه في ديسمبر عام 2011 عندما استقبل الرئيس الأميركي الوزير الأول العراقي نوري المالكي قال له بالحرف: «في الوقت الذي نضع فيه حداً للحرب يجب أن يعي العراقيون أنهم ليسوا لوحدهم»، والآن وقد مرت ثلاثة عشر شهراً بعد الانسحاب، فإن أقل ما يمكن أن نقوله هو أن العراق «دولة حرب بدرجة متدنية» على حد تعبير إحدى المنظمات البريطانية Irak Body Count التي وصفت الطامة الكبرى التي يعيش فيها العراق والتي تركته عليها الولاياتالمتحدة الأميركية بعد التدخل العسكري ابتداء من سنة 2003 دون نسيان التفجيرات المتتالية والصراعات الطائفية التي بدأت تشتعل أكثر من أي وقت مضى. وفي أفغانستان سيتم نفس الشيء مع الرئيس الأفغاني. سيستقبل في البيت الأبيض وسيقال له نفس الكلام بأن «الأفغان لن يبقوا لوحدهم»... ولكن الطبيعة البشرية والجغرافية والتاريخية والجيوسياسية في أفغانستان تنذر بسنوات عجاف تقضي على باقي السنبلات الخضر التي زرعت إلى حد الآن، ولا أظن هذا الذي كتبته أضغاث أحلام... فالمؤشرات موجودة والتاريخ قد يعيد نفسه في ذلك البلد... صحيح أن أوباما وكلينتون ورثا حروباً لم يكونا متسببين فيها... وكان العلاج الذي تبنياه هو سحب القوات العسكرية الأميركية تدريجياً وبأقل ضرر، والإبقاء على صداقات دبلوماسية مع تلك البلدان... وليس لديهما حل غير ذلك، وهذه هي الدبلوماسية وهي رياضة نفسية وبدنية مضنية وشاقة حيث الكثير من المخاطر والمتاعب، ونفهم من خلال ذلك كلام كلينتون عندما قالت مؤخراً «صار أهم شيء بالنسبة لي الآن هو الابتعاد عن هذا التوتر الكبير الذي عشته والعودة إلى الحياة الطبيعية» وأنا مع ذلك على يقين أنها سترشح نفسها في الانتخابات الرئاسية لسنة 2016. نقلا عن صحيفة الاتحاد