بعد ما يقرب من عامين على ثورة يناير جاء الوقت لكي نراجع انفسنا وضمائرنا حول مستقبل مصر، وهي تواجه تحديات ثقيلة لا أحد يعرف كيف الخروج منها.. خلال عامين لم يستطع أحد حتى الآن ان يرسم لهذا الوطن خريطة طريق يمضي عليها لبناء مستقبل أفضل.. مازلنا حتى الآن ندور في تلك الحلقة المفرغة حيث لا عمل ولا إنتاج ولا هدف ولا خطة ترشدنا نحو هذا المستقبل.. لابد ان نعترف اننا نعاني نقصا شديدا في الخبرات امام نظام جرف كل المواهب واستباح كل القدرات.. نحن امام منظومة اختلت كل مقوماتها في الرؤي والفكر والتخطيط.. نحن امام مجتمع فقد الكثير من رموزه المبدعة وامام أرض فقدت الكثير من خصوبتها طوال السنوات العجاف.. اننا جميعا ندرك حجم المأساة ونعرف أسباب المشاكل والأزمات ولكننا نقف امامها شاخصين دون ان نقدم حلولا أو نبدي رأيا وكأننا امام مريض تسوء حالته كل يوم بعد ان تركه الأطباء وجلسوا يتشاجرون من منهم يحصل على قسط أكبر من الأتعاب رغم ان المريض لا يملك شيئا غير دعاء الجالسين حوله. عندي وصفة لما نواجه في مصر الآن في تقديري انها ثلاثية يمكن ان تفتح الطريق نحو قدر من الاستقرار يسمح لمؤسسات الدولة ان تعمل وان تنتج حتى تمضي بنا الحياة.. المنظومة الأولى في هذه الثلاثية هي استعادة هيبة الدولة المصرية وليس من المبالغة ان نقول ان الدولة المصرية غائبة تماما عن المشهد العام لحركة المجتمع.. إن مصر دولة قديمة عريقة عرفت كل الوان الحكم وهي معقل تاريخي من معاقل المركزية وحين ينفلت الزمام في هذا النوع من الدول وهي قليلة على مستوى العالم فإن احوالها تسوء وتصبح عاجزة عن أداء دورها.. ان حالة الانفلات التي يعيشها الشارع المصري منذ قيام الثورة وحتى الآن تهدد مستقبل هذا الشعب ولا يعقل ان تخرج المليونيات كل أسبوع في ميدان أو ان تخرج طوائف الشعب كل طائفة لها مطالبها بحيث توقف الإنتاج وساءت احوال الفقراء والبسطاء.. انا لا أتصور ان تملأ الشوارع مليونيات لحساب القوى والتيارات الدينية بما فيهم الإخوان المسلمون والسلفيون لأنهم أصحاب القرار الآن فهل يمكن ان يثور الإنسان على نفسه.. إذا كان لهذه المليونيات مطالب لدى مؤسسات الدولة، فالإخوان الآن هم الدولة وهم المؤسسات.. والأغرب من ذلك ان يحاول المنتمون إلى التيارات الدينية إيقاف العمل في مؤسسات الدولة كما حدث امام المحكمة الدستورية.. ولم تتوقف لعنة الانفلات على الشارع المصري بل انها وصلت إلى مناطق أكثر حيث لغة التهديد أو التكفير أو السعي لإيقاف العمل كما حدث عند حصار مدينة الإنتاج الإعلامي.. ان الانفلات الذي وصل بنا إلى القتل امام الاتحادية واللغة الهابطة التي وصلت إلى أسوأ درجات التجريح والإهانة والصدام الدائم بين القوى السياسية، كل هذه الظواهر المريضة تتطلب الحسم من أجهزة الدولة بحيث تستعيد الدولة هيبتها.. إذا كانت الشرطة قد تعرضت لظروف صعبة في أيام الثورة فقد استعادت الكثير من قدراتها، وأصبح لزاما عليها ان تحمي المواطنين في ظل إجراءات عادلة ورادعة لا تجاوز فيها مع احترام كامل للقوانين.. لا أتصور ان يضرب فصيل عن العمل دون ان يحدد مدة الإضراب أو أسبابه لأن تعطيل مصالح الناس جرائم يعاقب عليها القانون ولا اتصور ان يخرج السلفيون أو الليبراليون أو الإخوان يمنعون الناس من تخليص مصالحهم في مؤسسات الدولة.. هناك تخريب في العمل انعكس بصورة واضحة على حجم الإنتاج.. وهناك انفلات في الشارع ترك آثارا سيئة على قطاع السياحة.. وهناك أماكن توقف العمل فيها تماما حتى وصل عدد المصانع المعطلة إلى الآلاف.. يحدث ذلك كله والدولة عاجزة عن فرض هيبتها على حياة المواطن المصري الذي بدأ يشعر بالخوف والعجز وقسوة الظروف المعيشية.. ان الدولة غائبة في حفظ الأمن وغائبة عن فوضى الأسعار وغائبة امام انفلات صريح في العلاقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة.. ان أي مجموعة من المواطنين الآن تقتحم السجن وتفرج عن مرتكبي الجرائم.. وهي لا تستطيع ان تحمي مواطنا ضد اعتداءات جماعية تحمل راية الإسلام كما حدث في الأسكندرية والدولة لا تستطيع ان تحمي المسئولين فيها امام هجمات دائمة على مؤسسات الدولة، بل ان العاملين في هذه المؤسسات لا يذهبون إلى اعمالهم ويتركون مصالح الناس في مهب الريح.. لا يوجد امامنا طريق لعودة الاستقرار إلا بعودة الدولة إلى ممارسة دورها في حماية المواطنين. المنظومة الثانية لعودة الاستقرار ان تدرك النخبة المصرية مسئوليتها عن مستقبل هذا الوطن بعد ان وصلت إلى أقصى درجات الفوضى والانقسام والانفلات في التعامل مع قضايا المجتمع وهموم الشعب.. عامان كاملان والنخبة المصرية تتصارع وتصفي بعضها بعضا حيث لا هدف ولا غاية. ان هذه النخبة هي التي تتحمل مسئولية الصراع السياسي الذي اجتاح الشارع المصري منذ قيام الثورة.. هي التي انقسمت على نفسها وقسمت الشعب.. وهي التي سارعت نحو الغنائم رغم ان الغنيمة مسمومة.. وهي التي ضيعت الوقت والجهد في معارك إعلامية استنزفت قدراتها وشوهت صورتها.. وهي التي حملت للشارع المصري أسوأ أمراض الشعوب، وهي الصراع الديني حين تحول المصريون إلى قوى دينية وأخرى مدنية، ووصل بنا الحال إلى اتهامات بالكفر وانتهاك للشريعة في وطن لم يعرف هذه الأمراض في يوم من الأيام.. ان المطلوب الآن ان تعود النخبة بكل فصائلها الدينية والمدنية إلى رشدها وتدرك ان النيران التي يشعلها البعض سوف تحرقنا جميعا.. ان دور النخبة في إصلاح المسار بما في ذلك ما أفسدته النخبة نفسها هو نقطة البداية لعودة الاستقرار في مجتمع يحتاج إلى خبرات ابنائه في كل مجالات الحياة. لقد كانت النخبة المصرية دائما في طليعة قوى البناء والتقدم في مصر ومن العار ان تفقد دورها بهذه البساطة أو ان تتحول إلى معاول هدم وتسئ لثورة عظيمة خرجت بنا شعبا ووطنا إلى آفاق من الحرية والكرامة. نأتي إلى المنظومة الثالثة في مسيرة الاستقرار وهم علماء الدين الأجلاء الذين كانوا دائما يمثلون القدوة الصالحة والإيمان الراسخ والتدين الصحيح.. لقد ظهرت بعد ثورة يناير تيارات دينية متعددة الألوان لم نعرفها من قبل وفي مقدمتها الجماعات الدينية السلفية.. كان السلفيون هم أكبر مفاجآت الثورة وحتى الآن مازال الشارع المصري يبحث عن هذه الظاهرة ويحاول تأصيلها.. كنا نعرف الإخوان المسلمين وكان لهم حضور طويل بيننا وكنا نتابع معاركهم مع النظام السابق وتحالفاتهم مع القوى السياسية الأخرى ابتداء بالوفد وانتهاء بحزب العمل.. ولكن الظاهرة السلفية مازالت تحتاج إلى توضيح صورتها خاصة انها خرجت على ثوابت كثيرة في المجتمع المصري ابتداء بالزي، وانتهاء بالأفكار والرؤي.. ان السلفية ليست فريقا واحدا ولكنها أكثر من فريق وأصبح لزاما عليها ان تطرح أفكارها ومبادئها وجوانب الخلاف بينها.. هذه القوى جميعها مطالبة الآن بأن توضح للشعب المصري أفكارها السياسية قبل الدينية.. كل ما كنا نعرفه عن السلفيين انها دعوة دينية في المساجد ولكن بعد ثورة يناير تحولت إلى أحزاب سياسية وبدأت رحلتها في ظل تحالفات مع القوى الإسلامية الأخرى، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون.. ان الشارع المصري لن يستريح إلا إذا اتضحت امامه أهداف وحسابات التيار السلفي وكيف سيتعامل مع بقية التيارات السياسية الأخرى.. في جانب آخر يمكن لنا ان نأمل يوما ان نفصل السياسي عن الديني وان نبتعد بالدين الحنيف عن صراعات السياسة ومستنقعاتها.. لا بد ان يطمئن المواطن المصري امام شواهد كثيرة باتت تزعجه وتحرك شجونه وفي مقدمتها محاولات دائمة لتحويل الصراع السياسي إلى صراعات دينية وهي منطقة خطيرة للغاية.. هنا ينبغي الفصل بين معارك السياسة الحزبية وثوابت الدين التي ينبغي ألا تدخل في هذا النوع من الصراعات. إذا كانت هيبة الدولة قد غابت وإذا كانت النخبة قد فرطت في دورها ومسئوليتها فإن العلماء الأجلاء هم ما بقي من تماسك هذا الشعب لأنهم القدوة والنموذج وحين تسقط هيبتهم أو تتشوه صورتهم، فهذا يعني اننا امام مأزق خطير.. ان معارك شيوخنا الأفاضل على الشاشات وما فيها من التجاوزات والشتائم تسحب الكثير من رصيدهم التاريخي والإنساني والديني وقد كانوا دائما في مقدمة الصفوف دفاعا عن قيم ترسخت في ضمير الناس، ويجب ان يحافظوا عليها.. حين تعود هيبة الدولة وهيبة المثقف المصري ودوره ومكانة وتأثير العلماء ورجال الدين سوف يعود للشارع استقراره المنشود لنبدأ معا رحلة البناء والمستقبل. ..ويبقى الشعر تعالي أعانق فيك الليالي فلم يبق للحن غير الصدي وآه من الحزن ضيفا ثقيلا تحكم في العمر واستعبدا فهيا لنلقيه خلف الزمان فقد آن للقلب أن يسعدا إذا كنت قد عشت عمري ضلالا فبين يديك عرفت الهدي هو الدهر يبني قصور الرمال ويهدم بالموت.. ما شيدا تعالي نشم رحيق السنين فسوف نراه رمادا غدا هو العام يسكب دمع الوداع تعالي نمد إليه اليدا ولا تسألي اللحن كيف انتهي ولا تسأليه.. لماذا ابتدا نحلق كالطير بين الأماني فلا تسألي الطير عما شدا فمهما العصافير طارت بعيدا سيبقي التراب لها سيدا مضي العام منا تعالي نغني فقبلك عمري.. ما غردا نجيء الحياة علي موعد وتبقي المنايا لنا موعدا دفاتر عمرك.. هيا احرقيها فقد ضاع عمرك مثلي سدي وماذا سيفعل قلب جريح رمته عيونك.. فاستشهدا تحب العصافير دفء الغصون كما يعشق الزهر همس الندي فكيف الربيع أتي في الخريف وبيت الخطايا غدا مسجدا ؟! غدا يأكل الصمت أحلامنا تعالي أعانق فيك الردي أراك ابتسامة عمر قصير فمهما ضحكنا.. سنبكي غدا أريدك عمري ولو ساعة فلن ينفع العمر طول المدي ولو أن إبليس يوما رآك لقبل عينيك.. ثم اهتدي من قصيدة "أريدك عمري" سنة 1990 نقلا عن جريدة الأهرام