هذا والله ما سمعته بنفسي، في أثناء وقوفي مساء يوم السبت الماضي، في طابور إنتظار طويل عريض، بإحدى لجان دائرتي في مدينة نصر، للتصويت على مسودة الدستور، المرفوضة شعبيا، بنسبة تتجاوز ال66%، حسب ما أعلنته المؤشرات الأولية لقاعدة بيانات جبهة الإنقاذ الوطني، المعارضة، وهي الأقرب إلى الصحة والتصديق، ومع التحفظ الشديد على ما سوقته أطراف مختلفة، بأن نسبة الموافقة التي لم تشهد إشرافا قضائيا كاملا تتجاوز ال56%. على كل حال، ومهما تضاربت البيانات الأولية حول مدى الرفض الشعبي لمسودة الدستور، أو حتى الإذعان والقبول لإستبداد السلطة، وإبداء السمع والطاعة العمياء لإملاء الإرادة المنفردة من رئيس تراجع عن وعد قطعه على نفسه بنفسه بشهادة الجميع بحتمية ووجوب التوافق على المسودة قبل طرحها للإستفتاء.. ثبت، بالدليل القاطع، أن كثيرا من المصريين صوتوا ب"لا" في المرحلة الأولى، وها هم يحتشدون اليوم في باقي المحافظات للتعبير عما تمليه عليهم ضمائرهم، طالما لم تلب المسودة المطروحة، للإستفتاء، غصبا، عن إرادة الشعب، ما كان مأمولا في الأساس من إعدادها لبلوغ أقصى الغايات من التوافق الوطني العام، وأيضا بما أنها لا تمثل كل المصريين، فضلا عن كونها لا تليق بما يمكن تسميته بدستور مصر بعد ثورة 25 يناير العظيمة، خاصة فيما احتوته من إتجاهات تعصف بالحريات وحقوق الفقراء. تفسيرا للتوجه الشعبي العام بالتصويت ب"لا"، ربما للمرة الأولى في تاريخ الإستفتاءات المصرية، سمعت جمهور الناخبات والناخبين وهم يتساءلون صراحة وبصوت عال، في أثناء إنتظارهم الممل، وربما المقصود لصدهم وسد نفسهم عن القيام بواجبهم بالتصويت في الإستفتاء، ماذا جنينا من غزوة التصويت ب"نعم" على التعديلات الدستورية، غير المباركة وسيئة الذكر، التي جرت في شهر مارس من عام 2011، وبالتحديد بعد شهرين من سقوط الطاغية، وسط حشود غير مسبوقة، ومباركة من التيارات المتأسلمة، وصلت إلى حد تبشير الموافقين بجنة الرحمن، والوعيد للرافضين بجهنم وبئس المصير. صدر في أعقاب هذه "النعم" المشئومة منذ نحو عامين ما سمي وقتها الإعلان الدستوري، الذي فرض على البلاد والعباد أسوأ خريطة طريق، كانت سببا مباشرا في حالة الإرتباك والفوضى التي دفعنا ثمنا غاليا لها، وما زلنا ندفع، وسوف نظل ندفع، من دمائنا وقوت يومنا ومستقبل أبنائنا. نعم، لقد فهم شعب مصر العظيم، وتعلم الدرس بعد أن دفع المواطنون الشرفاء ثمنا غاليا طوال العامين المنصرمين، وشربوا السهت والعلقم نتيجة للخريطة الإنتقامية من الثورة والثوار، على أيدي إدارة إنتقالية كانت غير مؤهلة ومرتبكة، وظلت جاثمة على أنفاس المصريين، بتشجيع ومباركة من تيار بعينه انصب جل إهتمامه على التكويش وجمع الغنائم. فهم المصريون أن إحتشادهم للتصويت ب"لا" هو الذي سيفتح باب الإستقرار، بعد أن رأوا بأعينهم حجم الإنقسام في البلاد والعباد، الناتج عن إصرار جماعة ومريديها في إعلاء شعار المغالبة والإستحواذ والإستفراد بالسلطة. هل يشك أحد أو يجرؤ على التشكيك في وطنية ونقاء رجل مثل محمد البرادعي؟ في حوار مع مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، قال البرادعي: جماعة الإخوان المسلمين تستخدم نفس "تكتيكات" النظام السابق ولغته الداعية إلى الإستقرار وإتهام المتظاهرين بأنهم بلطجية، مشيرا إلى أن نتائج المرحلة الأولية من الإستفتاء على الدستور شهدت عمليات تزوير واسعة وأن كلمة "لا" كان سيعلو صداها إذا كانت الإنتخابات حرة ونزيهة. هل تسببت تلك الحالة من الإتهامات العلنية بالتزوير في إرادة الناخبات والناخبين إلى إنسحاب العديد من القضاة، وفي مقدمتهم، المستشار الجليل زغلول البلشي، أمين عام الجنة العليا للإنتخابات، شفاه الله وعفاه من الظرف الطارئ الذي ألم به؟!.. أكتب قبل ساعات قليلة من فتح باب التصويت للمرحلة الثانية، لكم تمنيت لو إستجاب الرئيس، في خطاب يوجهه للأمة، لمبادرة من ثلاث نقاط، طرحها، عبر الأثير، المناضل حمدين صباحي، وهو يؤكد احترامه لمقام رئاسة أتت بالصندوق: أولا: يعلن الرئيس أنه رئيس لكل المصريين وليس لجماعة الإخوان المسلمين، ثانيا: يعترف بخطأ إصدار الإعلان الدستوري، الذي كان السبب في إراقة دماء الشهداء، ويطلب من المصريين إعانته على تصحيح أخطائه، ثالثا وأخيرا: أن يدعو الرئيس لحوار وطني حقيقي بمشاركة كل القوى السياسية لبناء البلد والنهضة، وللإتفاق على تشكيل جمعية تأسيسية جديدة يتم التوافق عليها. نقلا عن جريدة الأهرام