الأنباء المتواترة الآن تشير إلى أن إفلاسا يهدد مصر، وإلى طباعة بنكنوت بأرقام فلكية دون غطاء حقيقي، وإلى أن شركات عديدة أصبحت تعجز عن سداد الرواتب، كما أن أغلب المتفائلين يرون أن تكرار الصدامات الشعبية ينذر بحرب أهلية، بينما يراه المتشائمون خرابا ودمارا، وجميعها أمور يجب أن ننتبه إليها، ليس بتصريحات التفاؤل، وإنما بإجراءات حقيقية على أرض الواقع، قد تكون غير مستساغة في البداية إلا أن البديل سوف يكون أكثر مرارة. وربما لم أكن أبدا متشائما طوال الشهور العشرين الماضية مثلما هي الحال الآن، حيث الأزمة التي طرأت على العلاقة بين مؤسسة الرئاسة والسلطة القضائية، رغم أنها مرت بسلام، بالتزامن مع جمعة أو مليونية تمت الدعوة إليها دون مبرر معقول، وما استتبعها من مصادمات دون سبب منطقي، وما رافق ذلك من عقبات واجهت اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور، وتحفظات أعضاء المحكمة الدستورية عليها، والموقف الرافض من حزب النور أيضا، ثم موقف بعض القوى السياسية الرافض دائما والمتحفز على مدى الساعة، أضف إلى ذلك الوضع المتأزم في سيناء، والانفلات الأمني في معظم المحافظات، ثم الأزمات التموينية والاقتصادية والمالية، وما يواكب ذلك من احتجاجات وإضرابات واعتصامات. ولأن الأمر كذلك، فسوف نظل نؤكد أن مصر الآن في حاجة إلى هدوء من أجل الإنتاج، واستقرار من أجل التنمية، وأمن من أجل الرخاء، ولن يتأتى أي من ذلك إلا إذا واجهت الدولة الرسمية أوضاع الانفلات السائدة الآن بشجاعة وشفافية مع ما يرافقها من بلطجة سياسية واضحة للعيان أسفرت، للأسف، عن حرق ونهب وإغلاق طرق وتعطيل مصالح ومؤسسات تحت شعارات حقوق الإنسان وحرية التعبير، وهي أمور الثورة منها براء، والتقدم من خلالها هراء. وما أود الإشارة إليه هو أن النهاية المتحضرة للأزمة التي لحقت بالعلاقة بين مؤسسة الرئاسة والسلطة القضائية أكدت عدة أمور، أهمها: إن حضارة مصر الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ ألقت دائما بظلالها على مجريات الحاضر، وقد بدا ذلك واضحا أيضا في كل الأزمات التي شابت ثورة 25 يناير2011 وحتى الأزمة التي نحن بصددها، بمعنى أن إعمال لغة العقل والتحضر كان دائما وأبدا سيد الموقف في النهاية، ولهذا السبب عبرت السفينة إلى بر الأمان، ولم ننجر، كغيرنا، إلى ما يعكر صفو تلك الحضارة على مدى الشهور العشرين الماضية. إن الرئيس بإعماله قاعدة الرجوع إلى الحق فضيلة، وانتصاره لقضاء مصر، أثبت أنه قائد على مستوى المسئولية، لا يكابر، ولا يغامر، ولا يركن إلى العناد، وهو سلوك حضاري دعت إليه الأديان السماوية، وهو أيضا سمة نحمد الله أن اختص بها قائد البلاد في هذه المرحلة حتى يمكن أن نأمن على مستقبلنا وسط هذه الأمواج العاتية. إن رد فعل أعضاء السلطة القضائية، وبصفة خاصة النائب العام، كان مبررا دفاعا عن القانون وعن هيبة القضاء، أما الذين استغلوا الموقف للتصعيد على هذا الجانب أو ذاك، فمن المهم أن يراجعوا أنفسهم الآن من أجل مصلحة هذا الوطن الذي سوف يلفظهم عاجلا أو آجلا. إلا أن المثير في الأمر هنا، هو هؤلاء الرجال حول الرئيس، أو مستشاروه، أو من يستمع إليهم، أو سمهم ما شئت، فهم الذين أشاروا إليه بقرار إرسال النائب العام إلى الفاتيكان سفيرا، وإبعاده بذلك عن منصبه، ثم التفسير العجيب فيما بعد بأن ذلك ليس قرار إقالة، وإنما مجرد نقل من وظيفة إلى أخرى، في محاولة للخروج من المأزق القانوني الذي لا يجيز الإقالة!. رجال الرئيس هؤلاء يجب أن نتوقف ويتوقف الرئيس أمامهم طويلا للإجابة عن تساؤلات مهمة هي: هل تنقصهم الخبرة؟.. أم هم مستشارو سوء؟..أم هي الشخصية المصرية التي ترى في السلطة مجرد عزبة يرتعون فيها كما يشاءون؟!، بالتأكيد هي واحدة من هذه أو تلك، وإلا لما أديرت تلك الأزمة بهذه الطريقة الدرامية التي تكفل خلالها أحدهم بحديث هاتفي مع النائب العام حسب روايته- لإقناعه بالتنحي، وآخر باتصال يحمل تهديدا ووعيدا، وهكذا بدا الأمر وكأننا أمام حزب وطني آخر لم يكلف نفسه حتى عناء البحث عن إخراج جيد. ولهذا.. ومن خلال ثقتنا في شخصية الرئيس وحنكته فنحن على يقين من أنه سوف يشرح الحقيقة كاملة، بل سوف يعيد النظر في مستشاريه، والأهم من ذلك أنه سوف يستفيد مما حدث في المستقبل إدراكا أن مصر دولة مؤسسات ولا يمكن بأي حال أن تدار بمثل هذه الطريقة التي كادت تعصف بمكتسبات كثيرة حققها هذا الشعب بجهده ودمه. ولست شخصيا مع من يشيرون على القيادة السياسية بأن كل جمعة احتجاجات يجب أن يسبقها قرار لامتصاص الغضب أو لتفويت الفرصة، وذلك لسبب بسيط وهو أن هذه التجمعات لم تعد أبدا تعبيرا عن الرأي العام الطبيعي الذي يؤثر الآن الاستقرار والهدوء أملا في تحسن أمني أو تقدم اقتصادي، كما أن من يزايدون على قرارات الرئيس بمهاترات تأتي دائما بنتائج عكسية، عليهم أن يتوقفوا، وذلك لأن السفينة لم تعد تتحمل أكثر من ذلك. وإذا كان البعض قد تناول هذه القضية التي نحن بصددها من منظور حسابات المكسب والخسارة استنادا إلى تراجع مؤسسة الرئاسة عن قرارها، أو اعتبار التماس المجلس الأعلى للقضاء تنازلا- فهو منظور ضيق لم يرق أبدا إلى مصلحة الوطن العليا التي بدا واضحا أنها كانت الهدف الأسمى للمؤسستين معا الرئاسية والقضائية، وهذه هي شيم الكبار التي يجب أن يتعلم منها الصغار الذين أدلوا بدلوهم على مدى عدة ليال متتالية سواء في الفضائيات أو في مؤتمرات وتجمعات كان الهدف منها إشعال الفتنة في مجتمع ضج من مثل هذه الممارسات. ويصبح مهما الآن.. وبعد أن هدأت الأمور أن يحاسب كل طرف أنصاره ومريديه على ما اقترفوه في حق هذا الوطن، حيث لم يعد مقبولا استمرار هذه الأوضاع التي قد تخرج عن السيطرة يوما ما، كما يصبح من المهم أيضا، وخاصة حينما يتعلق الأمر بأجهزة رسمية، أن يكون هناك متحدث واحد ليس أكثر حتى لا تختلط الأمور، فلا يعقل أبدا أن تخرج تصريحات من محسوبين على المؤسسة القضائية تهين أو تزدري رئيس الدولة، في الوقت الذي لا يمكن فيه القبول بأن يوجه شخص ما تحذيرات من أي نوع إلى شخص بحجم النائب العام مهما يكن موقعه أو قربه من السلطة التنفيذية. كلها إذن ملفات تضع مؤسسة الرئاسة في موقف لا تحسد عليه، وتضع الحكومة في مأزق يومي، ويظل المواطن البسيط هو الضحية في ظل ذلك التصعيد المتعمد للأزمة من بعض القوى التي بدا واضحا أنه لن يغمض لها جفن إلا إذا رأت النظام الحاكم ينهار، غير مدركة أن الدولة هي التي تسقط وليس النظام، وهو الأمر الذي يجعل من حق الرئيس الاستعانة بأهل الثقة على حساب أهل الخبرة الذين اعتادوا الانتقاد والاعتراض والتشكيك في أي شيء وكل شيء دون تقديم البديل، ودون محاولة حقيقية من جانبهم للمشاركة في صنع مستقبل وطن هو في أمس الحاجة الآن إلى جهود أبنائه وأفكارهم، ولكن بصدق وإخلاص. ولذلك فمن المهم تأكيد عدة أمور أهمها: إن المعارضة موجودة في كل دول العالم المتحضر والمتخلف على السواء، إلا أن النموذج المصري أصبح فريدا بتلك المليونيات- لسبب ودون سبب- التي لا تريد أن تتوقف ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى ذلك. إن تلك التجمعات، رغم ضعف عددها وتكوينها وأسباب الدعوة إليها، تجد صدى لدى وسائل الإعلام وخاصة الأجنبية منها مما يلقي بتأثير سلبي سريع على الاقتصاد والسياحة والأمن وكل مقومات الحياة. إن تلك القوى التي تدعو إلى مثل هذا النوع من التجمعات بصفة دورية تدرك خطورة ذلك على اقتصاد وأمن البلاد، وأخشى أن يكون هذا هو الهدف وصولا إلى الهدف الأكثر شيطانية وهو إسقاط النظام. إن تمويل الإعلام في الداخل يجب أن يكون تحت مراقبة فاعلة لأن ذلك التمويل في السابق قد أسفر عن إيجاد شياطين إعلام، وها هم الآن يواصلون مسيرة التخريب والتأليب دون الأخذ في الاعتبار الحالة التي وصلت إليها البلاد أو التي يمكن أن تصل إليها. ما أخشاه.. الآن هو ألا تكون الدولة مستعدة لمواجهة هذا المأزق بإجراءات حاسمة تتطلب صدور مراسيم رئاسية أو قوانين تمنع هذه المظاهر لفترة من الزمن، تصل إلى عامين على الأقل، حتى يلتقط الاقتصاد أنفاسه، وما أخشاه ايضا هو أن تستمر مظاهر الانفلات أو البلطجة السياسية هذه إلى أجل غير مسمى، ثم في النهاية تأتي جمعة المحاسبة الحقيقية التي لن تستطيع فيها الحكومة الرد علي أي تساؤلات خاصة برخاء المواطن واستقراره، وما أخشاه كذلك، وهذا أمر طبيعي، هو أن تزداد الأمور سوءا فتتعاظم الديون والبطالة وعجز الموازنة وتصبح البلاد على أبواب ثورة الفقراء التي يتم التمهيد لها الآن. إذن.. الكرة الآن في ملعب السلطة الرسمية، فإما أن تواجه الموقف بحزم وشجاعة، وإما أن تتخاذل وتدفع الثمن، وما أود تأكيده هو أن الوقت يداهمنا، كما الانهيار تماما، ومشاريع الانفصال والتقسيم تطاردنا، كما هو حال بقية المنطقة، وفي الوقت الذي يدق فيه العدو الصهيوني طبول الحرب كل صباح، فإن الخطر للأسف يحدق بنا من الداخل أيضا، ومن هنا فلم يعد هناك أي مبرر لاستمرار هذه الأوضاع أو السكوت عنها أكثر من ذلك، وهذه هي حسابات المكسب والخسارة الحقيقية التي يجب أن نفطن إليها. نقلا عن جريدة الأهرام