عندما يتكلم عالم وأستاذ بقامة ومكانة الدكتور محمد غنيم رائد زراعة الكلي في الشرق الأوسط فإن كلماته تستحق التوقف أمامها باهتمام.. وعندما تكون هذه الكلمات عن التعليم في مصر وقضية إصلاحه فنحن أمام من هو قادر أكاديميا علي أن يرسم خريطة طريق الإصلاح بعيدا عن المناصب واللجان والمؤتمرات.. خريطة هي نتاج خبرة40 عاما أهم ما يميز خطوطها الواقعية والمكاشفة والوضوح. يقول الدكتور محمد غنيم نحن امام واقع يؤكد تردي وتدهور مستوي التعليم والبحث العلمي الأمر الذي يتضح من تقرير التنمية البشرية في مصر الذي يؤكد أن40% من المواطنين لا يعرفون القراءة والكتابة وليس لديهم الإلمام بعلوم الحاسب الآلي و اللغات وأيضا من تزايد معدل البطالة لعدم وجود تنمية اقتصادية تمتص العمالة الزائدة والناتجة عن تردي وسوء مستوي الأفراد, حيث إن معظم الخريجين لا يصلحون لسوق العمل, وهم خارج المنافسة مع الدول الأخري, وتساءل هل يصدق أحد أن الحاصلين علي بكالوريوس كليات الطب من الجامعات المصرية لا يحصلون علي وظائف في دول الخليج,لأن هذه الدول تشترط الحصول علي درجة الماجستير. الدكتور محمد غنيم مؤسس أول مركز متخصص لزراعة الكلي في الشرق الأوسط شخصية نادرة الظهور الإعلامي وليس له عيادة خاصة, إنما يهوي خدمة الناس البسطاء وله رؤية عميقة تدعو إلي التفكر وتتطلب الحوار من منطلق أن التعليم بشكل عام والتعليم الجامعي والبحث العلمي بشكل خاص يمثلان قضية مصر الأولي: عن كيفية إصلاح التعليم والبحث العلمي في مصر يقول: لابد من النظر إلي إمكانات الدولة حيث إن التعليم العام في مصر الذي يتبع وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي يضم15 مليون طالب بميزانية22 مليار جنيه للتعليم للجامعات والمدارس فيكون نصيب الطالب في مصر هو275 جنيها سنويا وهو مبلغ ضئيل جدا قياسا بنصيب الطالب في إسرائيل مثلا حيث يبلغ1250 دولارا سنويا وهناك مشروع قومي في إسرائيل يستهدف توفير حاسب آلي لكل10 طلاب بينما في مصر لا يمكن أن نحقق ذلك في ظل سياسات تتخبط في التخطيط وتغيير المناهج. ويضيف قائلا: لتحقيق نهضة علمية وإصلاح حقيقي لابد من توفير40 مليار جنيه علي الأقل سنويا تخصص للتعليم ويمكن تدبير هذا المبلغ من الموزانة العامة للدولة أو من حصيلة بيع شركات القطاع العام أو من الضرائب المحصلة والمؤسف أن تصريحات المسئولين عن التعليم في مصر تدل علي العشوائية والارتجال وغياب التخطيط في مصر فهناك من يقول يمكن التعليم عن طريق الفيديو كونفرانس والسبورة الضوئية فكيف يتم ذلك؟ ويقول الدكتور محمد غنيم إن إصلاح التعليم الأساسي أولا ضرورة وهو حق مجاني ومسئولية الحكومة كما يحدث في جميع دول العالم ولابد من وضع مرجعية أساسية لجميع المدارس سواء التابعة للوزارة أو المدارس الخاصة ولا مانع من أن يتم تدريس مناهج إضافية في المدارس الخاصة فهذا شأنهم ولكن لابد من الالتزام بالمرجعية الأساسية لنظام التعليم في الدولة وكذلك فيما يخص التعليم الفني فلابد من وضع نظام أساسي يخدم مصالح الصناعة في البلد ويتم تسخيره لذلك ويكون مسئولية الشركات التعليم الفني الحرفي. ويضيف: التعليم الأساسي في مصر منذ الأربعينات كان ينتهي عند المرحلة الابتدائية أما الآن ينتهي عند المرحلة الإعدادية آي9 سنوات دراسية, والسؤال ما هي مسئولية الدولة تجاه التعليم الأساسي؟! وما هي مواصفات التعليم الأساسي الجيد ؟ وللإجابة علي هذه الأسئلة لابد أن تتحول وزارة التعليم من وزارة تعليمية إلي وزارة سيادية آي أن تخدم عليها جميع الوزارات الأخري, وألا يزيد عدد التلاميذ في الفصل علي30 تلميذا, وأن يكون لدينا معلم مؤهل لأننا أمام نقص في الكوادر المؤهلة يصل إلي160 ألف معلم!! ويحذر الدكتور محمد غنيم من تدهور مستوي الجامعات المصرية التي أصبحت خارج التصنيف ففي الترتيب الأخير للجامعات في العالم لم تحصل أي جامعة مصرية علي أي ترتيب في الألف جامعة الأولي في العالم حيث جاءت الجامعة الأمريكية والتي يتباهي بها المسئولون في مصر في الترتيب رقم1441 علي مستوي العالم, ولأن التعليم الجامعي هو أساس البحث العلمي فقد ماتت الجامعات المصرية بعد أن تدهور البحث العلمي فيها وأصبحت الجامعات المصرية تقوم بتدريس مناهج خمسين عاما مضت وهذا عبث ولننظر إلي الهند والتي بدأت معنا مشروعها العلمي واتجهت إلي الأبحاث النووية منذ عام1958 عندما قدمت روسيا مفاعلين نووين أحدهما للهند والآخر لمصر فقامت الهند بتطوير قدراتها النووية والتكنولوجية ونحن لم نفعل شيئا وأصبحت الهند لديها القدرة علي صناعة المفاعل النووي نفسه وأصبحت تصدر من الحاسبات الآلية بما يعادل22 مليار دولار سنويا وتبلغ صادرات إسرائيل من الإلكترونيات2.1 مليار دولار وهناك العديد من الدول العربية بدأت في الاستثمار الخارجي في مجال الإلكترونيات. وعن كيفية إصلاح التعليم والجامعات في مصر يقول الدكتور محمد غنيم أن المشكلة تبدأ من وجود معايير مختلفة في المجتمع الواحد فهناك تعليم لأولاد الأغنياء في المدارس الخاصة ومدارس اللغات والذين يتلقون مناهج غير مصرية ولا يتلقون تعليما باللغة العربية ولا يدرسون التاريخ أو الأدب العربي بل يدرسون تاريخ أمريكا وبريطانيا وألمانيا والتعليم الديني الأزهري أو الجامعات ولذلك فالتعليم في مصر أصبح يفرز تناقضات تنذر بكارثة وقد تخلفنا علميا وصناعيا. ويقول الدكتور محمد غنيم في رؤيته القيمة, لقد تأسست أول جامعة مصرية أهلية عام1908, وتحولت إلي جامعة حكومية هي جامعة فؤاد الأول عام1954, بناء علي مشروع مقدم من عدلي باشا يكن. وقد تضمنت هذه الجامعات كلا من كليات الآداب والعلوم والطب والحقوق والهندسة والزراعة والطب البيطري والتجارة فكانت منارة للعلم والتنوير من المحيط إلي الخليج, ومقارنة ذلك بما أنشئ مؤخرا من جامعات آخرها جامعتا كفر الشيخ ودمياط يكشف أننا أمام جامعات هلامية عبارة عن شقق وعمارات تحولت إلي جامعات, ولم يفكر أحد في متطلبات الجامعات الجديدة من منشآت ومكتبات ومعامل وأعضاء مؤهلين لهيئة التدريس كما أن التوسع فيما يعرف بالتعليم المتميز الذي يكرس ازدواجية مستوي التعليم ويرسخ مفهوم التباين الطبقي في مجال يجب أن تتحقق فيه مبادئ تكافؤ الفرص, وقد زاد الطين بلة استحداث تغييرات جذرية في نظام الترقي والحصول علي الوظائف الجامعية فألغيت وظيفة أستاذ الكرسي وألغيت المنافسة العلمية للتدرج في السلم الوظيفي لأعضاء هيئة التدريس, فأصبحت الترقية مسألة روتينية, كما انتفت أهمية البحوث العلمية وباتت أمورا هامشية, بل إن محاولة تغيير هذه القوانين التي أدت إلي تخلف الجامعات وتراجع البحث العلمي لا تلقي استحسانا أو استجابة من أعضاء هيئة التدريس الذين تربوا وتعودوا علي الحصول علي أكبر المناصب الأكاديمية والتنفيذية بدون مجهود علمي مبتكر. ومن المؤكد وبلا شك إن كل هذه العوامل أثرت علي مستوي خريجي الجامعة تأثيرا سلبيا وأدت إلي ضحالة وتدني مستوي البحوث العلمية, كما ساهمت عدة عوامل أخري في تعجيل هذا السقوط والانهيار, فقد كانت ولا تزال الموازنات الخاصة بالبحث العلمي في غاية الضآلة كما أدت الإعارات الخارجية للعمل في دول الخليج, أو الداخلية للعمل في الجامعات والمعاهد الخاصة إلي استنزاف أعداد كبيرة من أعضاء هيئة التدريس والذين أنفق دافع الضرائب علي تعليمهم أو ابتعاثهم للخارج الكثير من الأموال. بالإضافة إلي انتشار الدروس الخصوصية في الجامعات_!!_ والاستعانة بالمذكرات والملخصات بدلا من أمهات الكتب و انتشار الوساطة والمحسوبية لأبناء ذوي السلطة وأعضاء هيئة التدريس. ويضيف الدكتور محمد غنيم قائلا: إنه في ظل هذه السلبيات جميعا طرحت فكرة إنشاء الجامعات الخاصة وقد تم صدور قانون منظم لها محددا أهدافها, وكان في مقدمتها تدريس مواد وإنشاء تخصصات ليس لها نظير في الجامعات الحكومية! وقد غاب عن المشرع وأصحاب القرار أنه لا توجد جامعات خاصة في أعتي الدول الرأسمالية تعود بالربح علي مجموعة من المستثمرين, ولكن يسمح فقط بإنشاء جامعات أهلية لا تستهدف تحقيق أي أرباح ويوظف أي عائد مالي يتحقق منها في تنمية العملية التعليمية والبحثية فقط, ومن المؤكد أن معظم هذه الجامعات الخاصة لم تقم بإنشاء أي أقسام جديدة, كما أنها استعانت بأعضاء هيئة التدريس بالجامعات الحكومية, ومن المدهش أن يقوم رئيس دولة أوروبية بافتتاح إحدي هذه الجامعات في حين لا يسمح القانون في دولته بإنشاء جامعات خاصة أو أهلية. ومن الغريب أن سداد المصروفات الدراسية الباهظة بتلك الجامعات لا يعتبر أمرا غير دستوري, في حين يزداد الاعتراض عند التحدث أو طرح أي مشروع يطالب نسبة من الطلبة بسداد مصروفات في الجامعات الحكومية, أو المساس بمجانية التعليم وإن كان قد تم الالتفاف حول هذا المفهوم بإنشاء ما يعرف بكلية التجارة الإنجليزية أو كلية الحقوق الإنجليزية. الخ داخل الجامعات الحكومية, ولقد ترتب علي هذه المشكلة عدة نتائج سلبية يمكن حصرها في وجود أعداد هائلة من خريجي الجامعات من أصحاب المؤهلات غير المطلوبة, أو من غير المؤهلين تأهيلا علميا وعمليا مناسبا يبحثون عن وظيفة غائبة ويمثلون قنبلة موقوتة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا, وأصبحت المخصصات المالية للتعليم الجامعي في صورته الحالية غير ذات جدوي بل تمثل إهدارا للمال العام, وغياب القاعدة العلمية, واستمرار التخلف في مجالات البحث العلمي. و يحدد الدكتور محمد غنيم ملامح خريطة الطريق للإصلاح وهي تتمثل كما يقول في محاولة الإصلاح من داخل المؤسسات القائمة وهذا الإصلاح سوف يجد صعوبات ليست بالقليلة تجاهل المؤسسات القائمة أوإقامة مؤسسات أخري علي أسس مغايرة تماما, كما إراد أن يفعل أحمد زويل. وفي كلتا الحالتين يجب أن يؤسس الإصلاح علي عدد من الركائز تمثل خريطة الطريق وتتضمن إنشاء قاعدة علمية وتشجيع البحث العلمي, والالتزام بتوفير الموارد المالية اللازمة والمناخ الملائم ودعم وتشجيع القائمين به. فالبحث العلمي يتطلب استثمارات ضخمة ونتائجه غير معروفة كما أن مردوده غير سريع, ومن هنا يتطلب وضع استراتيجية عليا له علي المدي القصير والمدي البعيد وضرورة تفرغ أعضاء هيئة التدريس تفرغا كاملا بما فيهم القيادات الجامعية المتمثلة في رؤساء الأقسام ووكلاء الكليات وعمدائها ونواب رئيس الجامعة ورئيس الجامعة في نفس المرحلة أن يكون القسم الأكاديمي وهو الوحدة الأساسية لكل كلية ومن ثم يجب أن يتوافر له الاستقلال الكامل من الناحية العالمية والإدارية والأكاديمية أن يتم اختيار رئيس القسم عن طريق الإعلان المفتوح, ويجوز في شغل هذه الوظيفة بالتحديد الاستعانة بمحكمين من الخارج لفحص الإنتاج العلمي للمتقدم لشغلها درءا لأي شبهات. كما يجب الرجوع إلي تاريخه العلمي وتفضيل الحاصلين علي جوائز الدولة التشجيعية أو جوائز التفوق العلمي. ولا يتم اختياره بالأقدمية من بين أقدم ثلاثة أساتذة أو بالانتخاب والاهتمام بالكتاب الجامعي, حيث تنفق الدولة عشرات الملايين من الجنيهات سنويا علي ما يعرف ب دعم الكتاب, والمفروض أن تصحح الدولة توجيه هذه الموارد بحيث تتخذ مسارا آخر. وهو أن تقوم الدولة بشراء حقوق طبع أمهات الكتب من الناشرين. وتكلف لجانا علمية متخصصة كل في تخصصها بتحديد الكتاب المرجعي لكل مادة ثم تقوم الدولة بطبع هذه الكتب بما يعرف بالطباعة الرخيصة الثمن أو نسخة الطالب, وقد أخذ بهذا الأسلوب في الهند حيث يتوافر بها مختلف الكتب والمؤلفات المرجعية بثمن زهيد أمام جميع الدارسين, و زيادة الإنفاق الحكومي علي البحث العلمي كنسبة من الناتج الإجمالي العام مع التركيز في إنفاق هذه المخصصات علي إقامة قاعدة علمية قوية في مجالات الفيزياء, الكيمياء, الرياضيات الأحياء وضرورة أن يتغير مفهوم التعليم المجاني بالجامعات في ضوء مجموعة من الاقتراحات, بحيث يصبح التعليم في الجامع ات الحكومية مقابل مصروفات.. وتسدد المصروفات الدراسية لكل طالب يقبل بالجامعات الحكومية وفقا للضوابط التالية, أن تقوم الدولة بسداد نسبة50% من هذه المصروفات( كمنحة) للطلاب النابهين والحاصلين علي شهادة الثانوية العامة من مصر, ولا يشمل هؤلاء الطلاب من سبق له الالتحاق بالتعليم الخاص في أي مرحلة من مراحل الدراسة قبل الجامعية, أو الحاصلين علي الدبلوم الأمريكي أو شهادة الثانوية العامة الإنجليزية. الخ. أيضا, أن تقوم هيئات محددة مثل: شركات البترول والأدوية والمقاولات والإنشاءات والقوات المسلحة بسداد المصروفات الدراسية لبعض الطلاب لتوظيفهم لديها بعد تخرجهم في الجامعات, وأن تقدم البنوك قروضا حسنة للطلاب لسداد المصروفات الدراسية ترد إليها علي أقساط شهرية بعد تخرجهم.