هل لدينا الشجاعة بأن نعترف أن المصريين نسوا من زمان بعيد معايير الإختيار السليم والفرص المتكافئة على أساس من الكفاءة والتميز.. هل يمكن ان نعترف ان قواعد التمييز بين قدرات الناس ومواهبهم الحقيقية قد غابت عنا لسنوات طويلة وان الساحة قد تصدرتها وجوه شاحبة في الآداء والموهبة والقدرات وان المجتمع المصري قد سقط فريسة انصاف المواهب في كل شىء أمام مقاييس شاذة واختيارات غريبة.. لقد ترسخت هذه الظواهر وأصبحت تمثل طريقة عمل وأسلوب حياة ولم يعد مفيدا للإنسان ان يكون أكثر ثقافة وعلما أو ان يسعى للجديد لكي يضيف لقدراته ومواهبه كل يوم المزيد.. لاشك ان الإدارة المصرية تعيش محنة قاسية ويكفي الآن ان تبحث عن مدير جاد ومتميز أو رئيس قطاع صاحب رؤى أو استاذ جامعي في تخصص فريد أو فنان صاحب موهبة حقيقية أو كاتب يتمتع بالموهبة والمصداقية.. أصبحت هذه الأشياء في غاية الصعوبة أمام شواهد كثيرة تؤكد ان معايير التفوق والتفرد في مصر أصبحت في أزمة حقيقية ابتداء بالغش في الامتحانات وانتهاء بغياب الفرص عن أصحابها الحقيقيين.. سوف نبدأ من أعلى نقطة في الهرم وهي منصب الوزير.. ان المفروض لمن يصل إلى هذه الدرجة الوظيفية ان يجمع بين العلم.. والرؤي.. والأمانة وهي ثلاثية لابد ان تتوافر في كل صاحب قرار.. ان يكون عالما في تخصصه.. وان يكون قادرا على صياغة وتشكيل رؤى مستقبلية وعملية لحدود مسئولياته.. وان يكون أمينا على الموقع الذي وصل اليه.. ان الشىء المؤكد ان البحث عن وزير بهذه المواصفات أصبح الآن مهمة صعبة مع كل تشكيل وزاري جديد وقد ترتب على ذلك ان تم اختيار أشخاص لا يصلحون لآداء هذه المهمة لسبب أو آخر حين افتقدوا أبسط الأشياء وهي غياب العلم حتى في تخصصاتهم أو غياب الرؤى وقبل هذا كله افتقاد الأمانة وما أكثر الوزراء الذين ادانتهم العدالة وأخذوا أماكنهم في السجون.. وإذا انتقلنا إلى مواقع أقل في التشكيل الوظيفي في الدولة المصرية فسوف نجد الآلاف من الأشخاص الذين تولوا مسئوليات إدارية و فنية ومالية ولم يكونوا على مستوى المسئولية آداء وأمانة.. ان حالات الفساد التي تكشفت عبر سنوات طويلة في مؤسسات الدولة ما بين الآداء السيىء والإعتداء على المال العام والقصور الشديد في تحمل المسئولية، كل هذه الشواهد كانت تؤكد ان هناك خللا ما في اختيار القيادات في مواقع كثيرة وقد أدى ذلك إلى تكوين مدرسة البيروقراطية المصرية وهي من أقدم مدارس الفساد الإداري والمالي والسلوكي في العالم كله.. منذ سنوات انتشرت على أرض المحروسة حكاية أهل الثقة وأهل الخبرة وقد أخذت من عمر المصريين زمنا طويلا، وانتقلت بكل أعراضها المرضية السيئة من القيادات العليا في الدولة إلى صغار الموظفين في الإدارات الحكومية.. أصبح من السهل ان تجد مديرا فاسدا أو جاهلا أو مسئولا في منصب مهم وصل اليه بالمحسوبية على أعناق العشرات من أصحاب الخبرة والمواهب، والأسوأ من ذلك كله ان أجهزة الدولة كانت تخفي جرائم هؤلاء الأشخاص وتتستر عليهم بل ان الفساد كان دائما يجمع بينهم رغم اختلاف المسئوليات والمواقع.. وكبرت ظاهرة أهل الثقة وامتدت إلى أبعد نقطة في الجهاز الإداري للدولة ولم يكن غريبا ان يجلس المسئول من أهل الثقة عشرات السنين في منصبه دون ان يحاسبه أحد حيث لا عمل ولا مسئولية ولا أمانة.. أمام هذا الشبح الذي يسمى أهل الثقة تسلقت وجوه كثيرة وأخذت مناصب لا تستحقها ولم تكتف بفساد مواقعها ولكنها نشرت هذه الصيغة بين المستويات الأدنى فأصبح كل فاسد يختار معه فريقا من الفاسدين والمفسدين. أمام هذه الصيغة الغريبة في إدارة شئون وطن كان الوزير يتولى السلطة ربع قرن من الزمان وتجىء أجيال وتذهب أجيال والوزارة لا تتقدم في شىء لأن الوزير لا يعمل وهو على ثقة انه سيبقى في مكانه.. فسدت الزراعة المصرية والوزير في مكانه وغابت الصناعة المصرية والوزير في مكانه وتشوهت ثقافة مصر والوزير في مكانه وشاخت الخدمات والمرافق والوزير في مكانه واختلت موازين العدالة والوزير في مكانه وفسد التعليم وتراجعت الجامعات والوزير في مكانه.. تشوهت كل الأشياء البشر والأماكن وكل مظاهر الحياة والمسئولون في مناصبهم وغابت تماما قضية التغيير عن المجتمع المصري حتى ترهلت مؤسسات الدولة في أدائها ومستوى المسئولين فيها وأصبح من الصعب ان يجد أصحاب المواهب والقدرات أماكن لهم أمام حشود أهل الثقة الذين كانوا عادة يساندون بعضهم بعضا حرصا على مصالحهم وبقائهم أطول فترة ممكنة.. لابد ان نعترف أن أهل الخبرة وهم نقيض أهل الثقة لم يكن مرغوبا فيهم ولم يجدوا لهم مكانا وسط هذا الصخب وهذه اليد الحديدية التي سيطرت على كل شىء ابتداء بالمؤسسات التنفيذية مرورا على المؤسسات التشريعية والرقابية وقد كان لها دور كبير في اختيار المناصب الرفيعة في الدولة.. لم يكن للمؤسسات العلمية أو البحثية أو الأكاديمية يوما دورا في اختيار مسئول في منصبه كانت الإختيارات عادة تتم على مرجعيات أمنية ورقابية وهذه المؤسسات كانت تفتي في حدود المعلومات التي لديها وهي عادة تخص الأمن وتوابعه. نحن الآن على أبواب مرحلة جديدة ونعيش واقعا نتمنى ان يخلصنا من كل شوائب الماضي بحيث يستعيد الإنسان المصري ثقته في وطنه وانه سوف يحصل على حقه حسب قدراته ومواهبه وبعيدا عن حسابات خاطئة تأصلت في هذا الوطن وأصبحت عبئا عليه وعلى مستقبله. ان الثقة شىء مطلوب ولكنها ليست كل المطلوب وإذا تعارضت الثقة مع الكفاءة فلتسقط الثقة لأن المنصب يحتاج من يدير شئون الناس وكم من أصحاب الثقة كانوا سببا في كوارث كثيرة مدمرة لحقت بهذا الوطن.. ان الشىء المؤكد ان مصر الآن تعاني قصورا واضحا في المواهب والقدرات وهناك أسباب كثيرة لذلك تبدأ بفساد التعليم والثقافة والإعلام وتنتهي بغياب العدالة وانتشار المحسوبية والإعتداء الصارخ على بعض فئات المجتمع أمام توزيع عشوائي غير عادل للثروة وقبلها للفرص التي تحولت إلى حقوق ثابتة للقادرين من أصحاب المناصب والمسئولين الكبار وأصحاب الأموال.. ان نقطة البداية ان يعتدل ميزان العدالة المقلوب ان النوايا قد تكون طيبة ولكنها لا تكفي حين تسقط الموازين وتختل منظومة الأشياء.. نحن الآن أمام أزمة حقيقية في اختيار المسئولين في إدارة شئون الدولة ابتداء بالوزراء وانتهاء بالمسئولين في مؤسسات الدولة وهناك طابور طويل من الوظائف الإدارية التي تشغلها عقول شاخت وترهلت ولا تصلح إطلاقا لأن تمضي بنا إلى الأمام.. ان في مصر ملايين الموظفين ومنهم أعداد كثيرة تعيش خارج الزمن حتى انها تحنطت في مواقعها وكانت سببا في تأخر وتخلف منظومة الإدارة في كل جوانب الحياة.. كثيرا ما واجهت الدولة أزمة بحثا عن وزير مناسب أو مسئول في موقع رفيع. وإذا كان المناخ العام في مصر الآن لا يساعد كثيرا على وجود الشخص المناسب فلماذا لا تلجأ الدولة أمام هذه الضرورة للإستعانة بأبناء مصر في الخارج خاصة في التخصصات المتقدمة والنادرة وقد فعلت ذلك دول كثيرة.. ان نقطة البداية ان نوسع دائرة الاختيار في الداخل بحيث نتخلى عن شبح قديم يسمى أهل الثقة ونعود مرة أخرى لكي نختار على أسس من التميز والكفاءة وإذا لم يتوافر أمامنا الشخص المناسب فلماذا لا نلجأ إلى مئات الآلاف من المصريين في الخارج ومنهم أشخاص من أصحاب المواهب والقدرات.. ان الأرقام تؤكد ان من بين 10 ملايين مصري في الخارج يوجد 86 ألف عالم متميز على المستوى العالمي بل ان هناك 909 هم أفضل علماء العالم بينهم 10 مصريين وان من بين خبرات المصريين في الخارج 42 أستاذا جامعيا في منصب رؤساء جامعات أجنبية وان في أمريكا وحدها 3000 عالم مصري في جميع التخصصات وان من بين علماء الطاقة النووية في العالم 1883 عالما مصريا وان 1250 عالما مصريا يعملون في تخصصات نادرة مثل الهندسة الوراثية والفيزياء والطبيعة والإقتصاد والرياضيات.. ان الاستعانة بمثل هذه القدرات ومصر على أبواب مرحلة بناء جديدة يعتبر ضرورة قصوى.. نحن أولى بأبناءنا وهم أولى بنا ولابد ان تستعين الدولة بقدراتهم وخبراتهم المتقدمة في كل مجالات الإبداع.. نحن الآن نقيم عشرات المشروعات الإستراتيجية الضخمة التي تمثل مستقبلا جديدا في حياة المصريين ابتداء بالمدن الجديدة ومشروعات الطاقة الكهربائية والشمسية والنووية ومشروعات البترول والإسكان والصناعات الصغيرة وتطوير التعليم والصحة ومحو الأمية لماذا لا نستعين بخبرات أبناءنا من العلماء والخبراء.. ان الدول الأخرى تجذب أبناءها النابغين وتستعين بهم في بناء مستقبل جديد.. لقد جمعت أمريكا مواهب الدول الأخرى وأقامت عليهم كل مشروعاتها الضخمة.. وجمعت إسرائيل كل العلماء اليهود من دول العالم واستعانت بهم في بناء دولة جديدة بل ان دول الشرق الأقصى ماليزيا وتايلاند وسنغافورة وكوريا وحتى الصين والهند كانت تسعى لجمع شتات أبنائها من الخارج واستعانت بهم في نهضتها وتقدمها.. نحن الآن في أشد الحاجة لخبرات المصريين في الخارج أمام حالة من الفراغ في جوانب كثيرة من حياتنا.. ان دعوة هذه الكفاءات لن يكلف الدولة شيئا والكثيرون منهم سوف يسعون لذلك بلا مقابل وسوف يقدمون الإستشارات والخبرات عن طيب خاطر.. وهنا يمكن ان توجه لهم دعوة من الدولة المصرية في مؤتمر كبير يجمع عشرات التخصصات بحيث نعرض عليهم ما يجري في مصر من مشروعات بحيث نستعين بخبراتهم في اختيار الأفضل والأكثر تقدما. ان مصر تعاني فقرا شديدا في الخبرات في السنوات الماضية أمام عملية تجريف شهدتها في كل شىء أمام عصابة استباحت لنفسها كل شىء في المال والمناصب والنفوذ وحرمت ملايين المصريين الأكفاء من حقهم وفرصهم ومواهبهم.. كم من المواهب التي سقطت تحت أقدام مسئولين عاجزين حيث لا مواهب ولا قدرات واستباحوا مستقبل هذا الوطن ولم يكونوا أمناء على شىء فيه. ان أبناء مصر في الخارج يمكن ان يشاركوا في إعادة بنائها والكثير منهم هربوا يوما أمام التجاهل والجحود وحشود الجهالة التي سيطرت على كل شىء والمطلوب ان يعود هؤلاء لأنهم أحق بوطنهم وهو أيضا أحق بهم. ..ويبقى الشعر مثْلُ النَّوارس ِ.. حينَ يَأتى اللَّيْلُ يَحْمِلُنِى الأسَي وأحنُّ للشَّط ّ البَعيدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. أعْشَقُ الشُّطآنَ أحْيانًا وأعشَقُ دَنْدنَات الرّيح ِ.. والموْجَ العَنِيدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. أجْمَلُ اللَّحظَاتِ عِنْدِى أنْ أنَامَ عَلى عُيُون ِ الفَجر أنْ ألْهُو مَعَ الأطْفَال فِى أيَّام عيِدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. لا أرَى شَيْئًا أمَامِي غَير هَذا الأفْق ِ.. لا أدْرى مَدَاهُ..وَلا أريدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. لا أحبُّ زَوَابعَ الشُّطْآن ِ.. لا أرْضَى سُجُونَ القَهْر.. لا أرْتاحُ فى خُبْز العَبيدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. لا أحِبُّ العَيْشَ فِى سَفحْ الجبَال.. وَلا أحِبُّ العشْقَ فى صَدر الظَّلام ِ وَلا أحِبُّ الموْت فِى صَمتِ الجَليدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. أقْطفُ اللَّحظاتِ مِن فَم الزَّمَان ِ لَتحتوينِى فَرْحة ٌ عَذراءُ فِى يَوْم ٍ سَعِيدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. تعْتَريِنِى رعْشَة ٌ..وَيَدُقُّ قَلبِي حِينَ تَأتِى مَوْجَة ٌ بالشَّوْق ِ تُسْكرُنِي..وأسْكِرُهَا وأسْألُهَا المزيدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. تَهْدأ الأشْواقُ فِى قَلبى قليِلا ً ثُمَّ يُوقظُهَا صُرَاخُ الضَّوءِ والصُّبحُ الوَليدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. أشْتَهِى قلْبًا يعانِقُنِي فأنْسَى عندُه سَأمِي.. وَأطْوى مِحنَة َ الزَّمَن ِالبَلِيدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. لا أحَلّق فِى الظّلام ِ.. وَلا أحبُّ قوافِلَ التَّرحَال ِ.. فِى اللَّيْل الطَّريدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. لا أخَافُ الموْجَ حِينَ يَثُورُ فِى وَجْهِي..وَيَشْطُرُنِي وَيبْدُو فِى سَوَادِ اللَّيل كالقَدر العَتيدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. لا أحبُّ حَدَائقَ الأشجَار خَاوَيَة ً وَيُطْربُنِى بَريقُ الضَّوْءِ وَالمْوجُ الشَّريدْ مثْلُ النَّوارس ِ.. لا أمَلُّ مَوَاكِبَ السَّفَر الطَّويل ِ.. وَحِينَ أغْفُو سَاعة ً أصْحُو..وَأبحرُ مِنْ جَديِدْ كَمْ عِشْتُ أسْألُ مَا الَّذى يَبْقي إذا انْطفَأتْ عُيُونُ الصُّبح ِ واخْتَنَقَتْ شُموعُ القَلْبِ وَانكسرَتْ ضُلوعُ الموْج ِ فِى حُزن ٍ شديدْ ؟! لا شَيْءَ يَبْقَي.. حِينَ ينْكسرُ الجنَاحُ يَذوبُ ضَوءُ الشَّمْس تَسْكُنُ رَفرفَاتُ القَلْبِ يَغمُرنا مَعَ الصَّمتِ الجَليِدْ لا شَيءَ يَبْقَى غَيُر صَوْتِ الرّيح يَحمِلُ بَعْضَ ريشى فَوْقَ أجْنِحَةِ المسَاءِ.. يَعُودُ يُلقيها إلى الشَّط ّ البَعيدْ فأعُودُ ألْقِى للرّيَاح سَفِينتِي وأغُوصُ فى بَحْر الهُمُوم ِ.. يَشُدُّنى صَمْتٌ وَئيدْ وَأنَا وَرَاءَ الأفق ِ ذكْرَى نَوْرس ٍ غَنَّي..وَأطْرَبَهُ النَّشِيدْ كُلُّ النَّوارس ِ.. قبْلَ أنْ تَمْضِى تُغَنّى سَاعَة ً وَالدَّهْرُ يَسْمَعُ مَا يُريدْ قصيدة "مثل النوارس" سنة 1996 نقلا عن جريدة الأهرام