في مجال تقييم ثورة25 يناير الرائدة قررت في مقالي الثورة الشاملة في مواجهة ثلاثية الزمن( نشر في30 أغسطس2012) أن الثورة حتي تكون شاملة حقا لابد أن تأخذ موقفا واضحا من ثلاثية الزمن التقليدية, وأعني الماضي والحاضر والمستقبل. ولو نظرنا لاستشراف المستقبل, أو بمعني أدق الاهتمام بوضع رؤي استراتيجية لمصر تحدد مسارات التنمية منها في العشرين عاما المقبلة, فهو موضوع تجاهلته للأسف كل الأحزاب السياسية المصرية, بالرغم من تنوع خلفياتها الأيديولوجية, لأن قضية المستقبل لم تشغل النخبة السياسية, لأنها غارقة في الصراع السياسي العقيم حول الحاضر, وأحيانا تنزع إلي الانسحاب إلي الماضي لتمجيد حقبة تاريخية ما علي حساب حقبة أخري من خلال تأويل منحرف للوقائع التاريخية. ولذلك قررت أن أخصص سلسلة كاملة من المقالات لتأصيل فكرة أهمية الرؤية الاستراتيجية, وعرض المشاريع المصرية الرائدة في هذا المجال التي لا تعلم عنها النخبة السياسية شيئا لضعف متابعتها للجهود العلمية التي قامت بها مراكز علمية متخصصة, سواء كانت حكومية أو أهلية, ولعجزها عن فهم أهمية تقديم البدائل المدروسة للحاضر الأليم الذي تعيشه البلاد, سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة. وأستطيع أن أقرر بكل موضوعية ودقة أن الجهد الرائد في مجال وضع رؤية استراتيجية لمصر قام به مركز الدراسات المستقبلية التابع لمركز المعلومات, ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء, والذي كان إنشاؤه في ذاته قفزة ضخمة في النهوض المؤسسي في بلادنا, لأنه أصبح مركز خبرة للدولة يوفر لها بشكل علمي البيانات اللازمة لاتخاذ القرارات, بالإضافة إلي دراساته وبحوثه التي قام بها, واستطلاعات الرأي التي يجربها بشكل منتظم. وتعود فكرة إنشاء مركز جامعي للدراسات المستقبلية إلي الدكتورمحمد منصور أستاذ العلوم السياسية بجامعة أسيوط والذي أنشأه عام.1989 واستطاع هذا المركز بنشاطه المنهجي في مجال الدراسات المستقبلية أن يصبح مركزا مصريا وعربيا مرموقا استقطب للعمل في أبحاثه مجموعة مختارة من الخبراء. وقد كان للمهندس رأفت رضوان المدير السابق لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار فضل دعوة الدكتور محمد منصور ليكون مستشارا للمركز ليساعد في تأسيس مركز للدراسات المستقبلية تابع لمجلس الوزراء, وذلك في عام2003, وأمضي الدكتور منصور عامين في عملية التأسيس, وشارك في تدريب مجموعة من الباحثين علي أحدث مناهج الدراسات المستقبلية, ثم دعي لكي يكون مديرا متفرغا للمركز عام2006, وبقي في هذا المنصب حتي ديسمبر.2011 وفي هذه السنوات الخمس استطاع الدكتور محمد منصور نتيجة جهد علمي خلاق أن يصمم ويشرف علي صياغة أول رؤية مستقبلية لمصر2030 واستعان في وضع هذه الرؤية بندوات عصف ذهني, شاركت فيها مجموعات من المثقفين المصريين والخبراء في القطاعات المختلفة. وأثمر هذا الجهد عن وثيقة بالغة الأهمية صدرت في ديسمبر عام2006 بعنوان( رؤية مستقبلية لمصر2030 الإطار العام) وسبقتها وثيقة صدرت في مارس2006 أعدتها مجموعة من شابات وشباب الباحثين بعنوان تجارب دولية في الدراسات المستقبلية حللت ثلاث رؤي استراتيجية أساسية هي الرؤية الإسرائيلية, والرؤية النيجيرية, والرؤية الأيرلندية, وذلك للاستفادة من المنهجيات التي استخدمت في هذه الرؤي. وحين قررت أن أبدأ هذه السلسلة من المقالات بالتعريف بالرؤية المستقبلية لمصر2030, والتي صدرت وثيقتها في ديسمبر2006, تبين لي من خلال مقابلة مع الدكتور محمد منصور وهو زميل قديم تشاركنا منذ زمن طويل في الاهتمام بالدراسات المستقبلية, أن المركز الذي أداره بنجاح فائق طور من هذه الرؤية وأعاد صياغتها, وصدرت في وثيقة جديدة مطولة وعد بأن يمدني بنسخة منها حتي يكون عرضي لها عرضا متكاملا تتابع أحدث صيغة لها. وقد لفت نظري وأنا أطالع وثيقة الرؤية المستقبلية التي صدرت عام2006 أن فريق البحث الذي أعدها حرص علي أن يورد ملحقا خاصا يستعرض فيه نتائج مسح الأدبيات السابقة. وهو ملحق بالغ الأهمية, لأنه يتضمن عرضا منهجيا لأبرز المحاولات السابقة التي حاولت أن تصوغ رؤي مستقبلية لمصر باستخدام مناهج مستقبلية متعددة. ويمكن مادمنا نحاول مجرد التوثيق في مقالتنا هذه لمشروعات الرؤي المستقبلية أن نقرر أن في تراثنا العلمي المعاصر أربع رؤي استراتيجية أساسية. الرؤية الأولي بعنوان رؤية مستقبلية لمصر في عام2012 أعدتها أستاذتان مرموقتان في الاقتصاد هما الدكتورة هبة حندوسة والدكتورة هناء خير الدين وكل منهما له دراسات بالغة القيمة في شئون الاقتصاد المصري. والرؤية الاستراتيجية الثانية والتي تعد قفزة نوعية في الاستشراف المستقبلي هو تقرير التنمية البشرية في مصر عام2005, وله عنوان دال هو اختيار مستقبلنا نحو عقد اجتماعي جديد, وكانت المحررة الرئيسية للتقرير هي الدكتورة هبة حندوسة. ومن ميزات هذا التقرير الذي شاركت سابقا في مناقشته طرح فكرة العقد الاجتماعي الجديد الذي ينبغي علي الدولة أن تبرمه مع المواطنين. أما الرؤية الاستراتيجية الثالثة فهي مشروع مصر2020 الذي قام به منتدي العالم الثالث, وأشرف عليه أستاذنا الراحل الدكتور إسماعيل صبري عبد الله عالم الاقتصاد المرموق ووزير التخطيط سابقا, وكان الباحث الرئيسي له هو زميلنا الدكتور إبراهيم العيسوي الأستاذ بمعهد التخطيط القومي, وهو الذي قام بالجهد الأكبر في تخطيط وتنفيذ المشروع. وهذه الرؤية تتضمن سيناريوهات متعددة بالغة الأهمية لمستقبل مصر. أما الرؤية الرابعة والأخيرة فهي تساؤلات حول إستراتيجية التنمية وهي وثيقة أعدتها وزارة التخطيط بالتعاون مع الوزارات الأخري في نهاية سبعينيات القرن العشرين وهي تحتوي علي مجموعة كبيرة من التساؤلات المهمة حول عملية التنمية وأهدافها في مصر. وأعدت هذه الوثيقة في عهد أستاذنا الدكتور محمد محمود الإمام الاقتصادي المرموق حين كان وزيرا للتخطيط. خلاصة ذلك كله أننا في دعوتنا لصياغة رؤية استراتيجية لمصر لا نبدأ من الصفر, لأن الجماعة العلمية المصرية بخبرائها الملتزمين بالمصلحة العليا للبلاد ارتادوا بجسارة وبعلم غزير ميدان الدراسات المستقبلية, وقدموا لنا هذه الرؤي التي يمكن بعد تحليلها نقديا أن تكون أساسا نبني عليه مشروعا قوميا لوضع رؤية استراتيجية لمصر. وأتمني أن يتشكل فريق قومي من أكبر الخبراء المصريين لمناقشة هذه المشاريع, التي اهتممت بعرض خطوطها العريضة علي الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية في لقائه مع الكتاب والفنانين. مقالنا في الواقع مجرد توثيق للجهود السابقة التي سنعرض لكل منها في المقالات المقبلة. نقلا عن صحيفة الاهرام