تخطو مصر خطوة مهمة صوب المستقبل، بانتخابها لرئيس جمهوريتها الثانية من خلال جولة الاعادة للانتخابات الرئاسية التي بدأت اليوم وتستمر يومين، وجموع المصريين يتشبثون بحقهم الأصيل في صياغة هذا المستقبل، ويعلقون آمالا عريضة على نجاح هذه التجربة الديمقراطية، وصوغ عقد اجتماعي جديد يحكم علاقتهم بحاكمهم خلال السنوات المقبلة. ولاشك أن سقف طموحات، وتطلعات الشعب المصري خلال الفترة الماضية أصبح كبيرا، ولم يعد يرضيه إلا محاكاة الديمقراطيات الحديثة التي بات يتوق الى تحقيقها على أرضه، بعدما استشعر حريته في التعبير عن نفسه بعد نجاح ثورته. ولعل الصورة أمام معظم اللجان الانتخابية المتمثلة في انتظار الناخبين في طوابير أمام اللجان في هذا الطقس شديد الحرارة، تثبت الاصرار لدى المصريين، والعزيمة في جديتهم ورغبتهم في المشاركة الحقيقية في صياغة مستقبل بلادهم. وعلى الرغم من السلبيات التي شابت المرحلة الماضية، ورغم الأجواء الضبابية التي خيمت على المشهد السياسي، الا أن الإيجابيات للتجربة الوليدة تبدو جلية، لايمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها. فخلال الفترة الماضية علق بالممارسة السياسية الكثير من الشوائب التي ربما أثرت على المواطن البسيط الذي كان ينتظر بعد نجاح ثورته في الخامس والعشرين من يناير أن يجني ثمار هذه المرحلة، الا أنه اصطدم بالكثير من المؤثرات السلبية التي كادت تفقده الرؤية السليمة . وبدا المشهد للكثيرين ضبابيا وغامضا ينقصه الكثير، في ظل الصراعات السياسية الخفية بين القوى والنخب السياسية، وصراع على سلطة غير موجودة في الواقع السياسي . وظهرت برامج التوك شو، وكأنها تقود المشهد، وسطع نجوم جدد، استشعروا أهميتهم في قيادة الرأي العام، الا أن هذه القيادة اصطدمت بواقع الممارسة السياسية على أرض الواقع، ليظهر ذلك بشكل أكثر وضوحا في الانتخابات البرلمانية التي جاءت نتائجها على غير توقع الكثيرين، ليبدو الأمر وكأن النخب السياسية تعيش واقعا غير الواقع الذي يعيشه الجمهور. وكان اللافت خلال المرحلة الانتقالية، الأداء السياسي للقوى السياسية خاصة الأغلبية الجديدة انها لم تستوعب حركة الجماهير ومتطلبات المرحلة، وحقائق التاريخ . فبدا الأداء ممعنا في التحدي من جهة، وتجاهل حركة الشارع ومقتضيات المرحلة من جهة أخرى، ليظهر التباين في الرؤى والاختلاف بين القوى السياسية في التوجهات . وجاءت مرحلة الانتخابات الرئاسية الأولى، معبرة بشكل قوي عن حجم الخلافات بين هذه القوى السياسية، ولم تستطع القوى الثورية توحيد رؤيتها ورص صفوفها خلف مرشح واحد، وبدت الصورة مقلقة للشعب المصري الذي استشعر خطر المرحلة منذ بدايتها ودفع ثمنها بالكامل، وكان ينتظر جني ثمارها، غير أن الثمار جاءت في معظمها مخيبة لأماله ومحبطة لطموحاته، فاتسم الأداء السياسي بالتخبط، وظهر التباين في التوجهات واضحا، وغلبت النظرة الضيقة للأمور، وتغليب المصالح الشخصية على صالح المجموع جليا. غير أن هناك إيجابيات في المشهد العام لايمكن تجاهل حدوثها، لعل على رأسها شعور المواطن البسيط بأهمية صوته كسبيل الى التغيير بعد سنوات من إفتقاده هذا الشعور،الذي ساد خلالها الاحساس بعدم جدوى المشاركة السياسية لانعدام فرص التأثير. ولاشك أن إعادة إشراف القضاء على العملية الانتخابية برمتها سواء الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية شكل صمام أمان للعملية بأكملها، وعكس إحساسا بالاطمئنان لدى المواطن البسيط الذي استشعر أن العملية اتسمت بالحيادية والنزاهة والمصداقية فلبى الدعوة للمشاركة والتفاعل الايجابي . ولاشك أن اعتماد بطاقة الرقم القومي كوسيلة وحيدة لاثبات شخصية الناخب أمام لجان الاقتراع شكل أيضا ضمانة اضافية للمصداقية وإنعدام فرص التزوير، حيث كان السائد في الانتخابات السابقة اعتماد أية وسيلة لاثبات شخصية الناخب حتى دون اثبات شخصية في بعض اللجان في الأقاليم والقرى والنجوع مما كان يفتح الباب واسعا للتزوير. ومن المتوقع، أن تشهد السنوات المقبلة تثبيتا للممارسة الانتخابية وتعميقا أكثر لأساليب الشفافية في تصويت الناخبين بمحاولة الاستعانة بالأساليب التكنولوجية المتطورة للتصويت للتخفيف عن المواطن وسرعة الادلاء بالصوت من جهة، واغلاق الباب نهائيا عن أي محاولات للتزوير. ويأتي دور المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن الداعم الرئيسي لتأمين العملية الانتخابية وهو الدور الذي ثبت احترافيته وكفاءته خلال الممارسة الديمقراطية في الانتخابات التي جرت خلال المرحلة الانتقالية سواء الانتخابات البرلمانية لغرفتي البرلمان من مجلس شعب وشورى، أو الانتخابات الرئاسية. فمما لاشك فيه أن تأمين العملية الانتخابية لا يقل في أهميته عن الممارسة الانتخابية في حد ذاتها، خاصة في ظل مرحلة اتسمت في بدايها بالخلل الأمني وزيادة أعمال البلطجة. وبدا لافتا المشهد أمام معظم اللجان الانتخابية، وتفاعل ملايين المصريين وانتظارهم بالساعات أمام لجان الانتخابات في طوابير دون خروج عن النص واصرارهم على أداء دورهم في التصويت والمشاركة بفاعلية بعد أن استشعروا الجدية والرغبة الحقيقية في نزاهة العملية الانتخابية بعد سنوات من الاحجام عن المشاركة، ليقدم دليلا اضافيا الى رغبة المصريين وتعطشهم الى الديمقراطية والمشاركة في صناعة مستقبل وطنهم . وفي ظل هذا الطقس شديد الحرارة كان المشهد المؤثر، وقوف معظم الناخبين أمام اللجان يحمل بعضهم مظلات يتشاركونها سويا لحمايتهم من أشعة الشمس . وكان التفاعل بين الجميع من خلال تبادل الأحاديث، والايثار في تقديم زجاجات المياه المعدنية المثلجة للتخفيف من حرارة الشمس، مؤشرا يضيف الى درجة التفاعل والاصرار على استكمال المهمة لدى معظم المصريين لصناعة مستقبل بلادهم، واختيار رئيسهم بإرادتهم وبأيديهم من خلال التصويت الحر، ليوجه رسالة بالغة الأهمية للرئيس الجديد، مفادها أن هذا الوطن، وهذا الشعب، يستحق أن يبذل من أجله الكثير لاستعادة ما ضاع منه على مدى السنوات الماضية، وأن يحقق له ما يصبو اليه من أحلام وطموحات باتت مشروعة .