نقلا عن /جريدة اخبار الخليج فى 30/9/2007 لقد كان ولايزال الوطن العربي الكبير ينعم بثروات طبيعية جعلت منه هدفاً لأطماع الغرب الاستعماري على مدى قرون طويلة، ويأتي على رأس هذه الثروات النفط الذي يمثل نسبة 61.1% من الاحتياطي العالمي، لكن هذا الوطن يفتقر إلى الثروة الأهم وهي المياه، حيث انه مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأخيرة برزت أهمية بحث ودراسة مسألة الأمن المائي العربي، وهو موضوع وثيق الصلة بالأمن الغذائي العربي وهذا الأخير يعتبر أهم مكونات الأمن القومي العربي الذي يتعرض للعديد من التحديات ويحتاج الى بحث آخر أكثر تفصيلا. إنّ التفكير في المشروع الحضاري العربي وانطلاقاً من أن الارتباط بالأرض والماء يعتبر أحد مقومات التاريخ الحضاري العربي، لأنه التفكير في درء خطر ندرة الماء والموت عطشاً وجوعاً، فعلى ما يبدو أنه يوجد أزمة مائية حقيقية بدأت بوادرها تتضح بجلاء في الوطن العربي، وإذا كان النفط يعتبر أساس الاقتصاد وعصب الوطن فمن دونه تشل الأوطان، وتعدم الحياة فوق أراضيها وتصبح خرائب وقفارا مهجورة، ولئن كانت العائدات السنوية من النفط وهو مادة ناضبة قد تجاوزت العشرات من المليارات من الدولارات، فإن ميزانية العجز المائي المتصاعد باتت لا تقل هي الأخرى عن عشرات المليارات، وإذا كان الوهم النرجسي قد جعل بعضنا يتصور أنه بالإمكان عن طريق النفط التحكم بعصب صناعة الغرب، فإن واقع العجز المائي المتفاقم قد أزال الغشاوة عن حقيقة أشد مرارة بكثير من حلاوة الوهم، وهي أن ذلك الغرب نفسه الذي نتحكم بعصب صناعته يتحكم الآن بعصب وجودنا بالذات، ولئن اكتشفنا على هذا النحو أنّ سلاح النفط هو المصدّر وهل ارتقينا أصلاً إلى مستوى هذا السلاح الذي يسلب منا بالقوة، فإنّ المفاجأة التي أعدتها لنا العقود الماضية مع نهاية القرن العشرين، خصوصاً عقدي الثمانينيات والتسعينيات قد جاءت هي الأخرى أخطر من أي ثغرة يمكن أن تفتح في الأمن القومي العربي، ألا وهي ثغرة الأمن المائي وبالتالي تهديد الوجود بالذات. ان أمن كل قطر من الأقطار العربية بمفهومه الخاص للأمن الذي غالبا ما يخلط فيه الأمن الوطني بالأمن القومي أو الاستجابة لأحد الأمنيين دون الآخر، في حين نرى أنه لا ينسجم مع الاستراتيجيات الأمنية المتباينة التي تطبقها الدول العربية وذلك كنتيجة طبيعية لاختلاف السياسات الداخلية أو الخارجية لكل دولة على حدة وللتباين الايديولوجي والتبعية السياسية والاقتصادية لبعضها لدول عظمى تؤثر صياغة قراراتها الاستراتيجية، وإن كانت هذه التبعية غير معلنة ولكنها مفضوحة ومكشوفة. إن الأمن المائي هو الجزء الحيوي المكمّل للأمن الغذائي العربي في المفهوم المجتمعي الاستراتيجي للأمن القومي العربي، وكان من المفترض أن نتطرق الى الأمن الغذائي قبل المائي، على كل هي مواضيع متشابكة وموضع نقاش على الساحة، وتتمحور مشكلة المياه أصلاً حول الجدلية القائمة بين محدودية الموارد المائية من جهة ومدى الحاجة الحياتية والحضارية للمياه في كلّ دولة من دول المنطقة من جهة أخرى.أما الصراع بشأن المياه فينبع من مطامع دول الجوار في المياه المشتركة مع الأرض العربية، ومن مطامع إسرائيل الاحتلالية التوسعية، وفي العصر الحالي أصبحت السيطرة على مياه الأنهار وتطوير استخدامها ووضع العلم والتكنولوجيا في خدمتها أكثر أهمية بل أكثر فعلاً في الأحداث والتغيير من النظريات السياسية، وتقول الوقائع انّ أكثر من نصف سكان العالم ليس لديهم مياه شرب نقية وثلاثة أرباع سكان هذا العالم ليس لديهم وسائل صرف صحي حديثة، كما أنّ 25 مليوناً من البشر يموتون كل عام نتيجة أمراض سببها نقص المياه الصالحة للاستخدام الإنساني أو فقدان وسائل الصرف الصحي، فحاجة العالم إلى الماء تزداد باستمرار، وتقول الدراسات إن كل لتر من الماء نحتاج إليه لسد حاجات الاستهلاك الآدمي سوف نحتاج بجانبه إلى 12 لتراً من الماء لأغراض الزراعة، ويحتاج إنتاج كل لتر من النفط إلى 12 لترا من الماء لمعالجته أثناء تكريره. من المعروف انّ إمبراطوريات الشرق القديم ووادي النيل والحضارات المزدهرة التي قامت ما بين النهرين، عملت على تطوير نظم الري وقوانين مجتمعات الري والرعي والزراعة وأن أعظم نهرين في وسط الوطن العربي ومشرقه هما النيل والفرات وهما لا ينبعان من الأراضي العربية وإن كانا يصبان فيها، على أن الخطر الأشد فداحة وإحداقاً بالأمن المائي العربي هو الذي مصدره الكيان الصهيوني، ذلك أن تاريخ اعتداءات هذا الكيان واحتلالاته يثبت حقيقة مهمة وهي تطابق خريطته الأمنية مع خريطته المائية مطبقاً شعاره التوراتي: «حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل«، وهذا يؤكد أن الأمن السياسي العربي هو نفسه الأمن المائي في منظوره العدواني التوسعي في الأراضي العربية وفق استراتيجيته المعروفة في القضم والهضم والضم. من جهة أخرى، إنّ أخطر ما يواجه هذه المسألة الاستراتيجية المهمة، أي مسألة الأمن المائي العربي هو أيضاً المعادلة المائية غير المتكافئة بين العرب والجوار الإقليمي ويتجلى ذلك بتزايد عدد السكان والتطوير والتحديث والتنمية المستدامة العربية وانعكاس ذلك على الحاجة المائية للطرفين، وما ينجم بينهما من خلاف وأزمات وإشكالات قد يكون سببها السيطرة على المياه الذي سيجعل موضوعها مسيطراً أيضاً على الفكر الاستراتيجي العربي والدولي وخصوصاً ما يتعلق بهذه المياه في منطقتنا وحقوقنا فيها ورؤية القوى التي تضعها في مجالها الحيوي. على أنّ الخطر الأعظم بل والأشد فداحة الذي يحيق ويحدق بأمننا المائي العربي هو ذاك الذي يأتي باستمرار من مصدر التهديد الأكبر والدائم للأمن القومي العربي في شموليته أي العدو الإسرائيلي، فهذا العدو الذي يصدق عليه أكثر من أي عدو آخر نعت بالعدو القومي وهو شره جداً إلى المياه شراهة لا تعادلها إلا شراهته إلى الأرض في سياسة القضم والهضم والضم التي ينتهجها منذ خلقه ونموه السرطاني في المنطقة، فقد بادر هذا العدو التاريخي منذ العام الأول لقيام كيانه المصطنع إلى تأميم المياه واعتبارها ملكاً مشتركاً لا يجوز للأفراد التصرف به بمفردهم، وقد طوّرت دولة الكيان الصهيوني استهلاكها من المياه منذ عام 1949، وكان وقتذاك لا يتجاوز 350 مليون م3، ليصبح في الوقت الراهن يتجاوز الثلاثة آلاف مليون م3، والعدو الصهيوني هو العدو القومي الذي يقيم تكافؤاً وتلازماً ما بين خريطته الأمنية وخريطته المائية، كما أن الحدود التي يؤثر الكيان الصهيوني أن يحيط نفسه بها هي حدود مائية، كما نرى في الواقع الجيوستراتيجي الإسرائيلي، ومع تأخر التسوية النهائية بين الفلسطينيين وإسرائيل وتعثر المفاوضات على المسارين السوري واللبناني ونسفها فيما بعد، سيظل نهر الأردن ومشكلة تقسيم المياه فيه عنصراً مستقلاً في منطقة لا ينقصها المزيد من عناصر الاشتعال، خصوصاً أنها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان 2003 أصبحت هذه المنطقة مفتوحة على احتمالات الانفجار كافة بالإضافة إلى العامل الإسرائيلي والعامل الإقليمي، فإن لثغرة الأمن المائي العربي أبعاداً داخلية تتمثل في مشكلات التصحر والتلوث والتملح والهدر بالاضافة الى مشكلة الأنانية القطرية. على الصعيد الإقليمي، في دول مجلس التعاون الخليجي واليمن، تعتبر المياه الجوفية وتحلية مياه البحر المصدر الرئيسي للمياه ويستهلك القطاع الزراعي 85% من المياه ويصل نقص المياه إلى حوالي مليار متر مكعب، ومن المتوقع أن يرتفع الطلب على المياه في هذه الدول إلى 47 مليار متر مكعب بحلول عام 2015، ولكن سيكون المتوفر في ذلك الوقت 21.5 مليار متر مكعب، وهو ما يعني تفاقم عجز المياه في هذه الدول مستقبلاً. القلق الراهن للحكومات العربية الناجم عن أزمة المياه وعن تهديدات الأمن المائي العربي أصبح يتطلب تكثيف العمل العربي المشترك لمعالجة جميع جوانب هذه المشكلة، لأن استفحالها سيضر مباشرة بالوضع الغذائي، ولأن تعبئة الموارد المائية تعد ضرورة للحدّ من العجز الغذائي في الوطن العربي، لقد أصبحت مسألة المياه مسألة استراتيجية تتطلب من العرب وضع خطة قومية شاملة لمواجهة أي خروقات سياسية لهذه المسألة تفضي إلى عجز مائي قد يصيب أمتنا، وللأسف أن النظام العربي الحالي لا يعير المسألة الأمنية القومية ومنها المائية اهتمامه الكافي إلا عندما يقع في أسوأ نتائجها ويذيق شعوبه مرارتها، وعلى الرغم من خطورة التحديات التي يواجهها الأمن المائي العربي فإن الاستعداد العربي على المستوى العملي لمواجهة هذه التحديات مازال ضعيفًا جدًا بدليل عدم الاتفاق العربي بشأن إستراتيجية مائية عربية، وعدم تجاوب الدول العربية مع دعوة أمين عام جامعة الدول العربية لعقد قمة عربية حول المياه التي نادى بها منذ عام 1995، كما أن هناك عدم وضوح في الرؤية بالنسبة الى الخطوات العملية العربية التي ستتخذ في المستقبل بشأن قضايا المياه على المستوى الوطني أو الإقليمي، إلا أن هذا لا يقلل من أهمية نتائج هذا المؤتمر الذي يمكن اعتباره على أقل تقدير ظاهرة علمية وسياسية لتأكيد خطورة الوضع المائي العربي. إن استيعابنا لما تعنيه أزمة المياه في عالمنا، ونظرتنا الموضوعية المنصفة إلى جهود الحكومات العربية في توفير المياه لشعوبها، في ظل وجود التوسع الاستيطاني البشع لإسرائيل، ينبغي أن يرتقي إلى مستوى مواجهة ثغرات الأمن المائي بكامل أبعادها، فلا بد من رسم علاقة في موضوع المياه بين جميع الحروب التي شنتها إسرائيل على العرب وبين الماء كعامل أبرز منذ بداية العمليات العسكرية التي قام بها الجيش الإسرائيلي على الجبهة السورية في السنوات التالية لقيام كيانه بالاستيلاء على كامل ضفاف بحيرة طبرية والحولة، إلى العدوان الثلاثي عام 1956 للوصول إلى قناة السويس، إلى عام 1967 وحرب الأيام الستة وكيف كان تحويل مجاري نهر الأردن هو الحافز من ورائها ومن ثم الاستيلاء على أراضي الجنوب اللبناني الذي تبعه الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام .1982 هل يستطيع الماء العربي أن يطفئ الحرائق السياسية في وطنه؟