منذ قيام ثورة يناير ورحيل رأس النظام السابق وانا أحذر من مأساة الانقسامات في الشارع المصري بين القوى السياسية وغير السياسية، وكيف أنها تمثل ظاهرة خطيرة تهدد أمن مصر واستقرارها.. في كل يوم كانت دائرة الانقسام تتسع وتحمل معها طوائف جديدة وبقدر ماكان التوحد شيئا رائعا في ايام الثورة بقدر ما فشلت جميع القوى في الاتفاق على شيء.. أي شيء.. ولا يستطيع الإنسان ان يبرىء طرفا من الأطراف في هذه الجريمة التي إشترك فيها الجميع في سلطة القرار أو خارجها.. وقد حذرت من البداية ان مخاطر الانقسام سوف تدفع بنا بالضرورة إلى مناطق الصدام وهذا ما حدث وما تأكدت شواهده في الأيام الأخيرة حيث بدا واضحا ان حالة التشرذم التي تشهدها مصر الآن هي أخطر مايراه المراقبون امام وطن يتفكك وشعب فقد القدرة على إدارة شئونه. لايوجد طرف في مصر الأن يثق في طرف آخر.. جميع القوى لا تثق في بعضها البعض وأصبح الشك وسوء الظن هو العامل المشترك بين هذه القوى ولا أتصور شعبا يريد بناء وطن جديد والخروج إلى مستقبل أفضل وهو لا يثق فيمن يديرون شئونه ويتحملون مسئولياته.. لا توجد ثقة الآن بين المجلس العسكري وشباب الثورة لأن المجلس وإن كان قد إعترف بدور الشباب إلا أنه فيما يبدو لم يصل إلى اقتناع كامل بأن ما حدث في مصر كان بالفعل ثورة وان على الشباب ان يقبل الأمر الواقع بعد ان تغير رئيس الدولة وسقط الحزب الوطني واختفت بعض رموز العهد البائد.. المجلس العسكري كان يرى ان ذلك يكفي بينما كان الشباب يريدون تغييرا شاملا في مؤسسات الدولة لأننا امام ثورة، وهنا كان الإنقسام ثم كان الصدام ثم كان غياب الثقة بين من قاموا بالثورة وشاركوا فيها ومن تحمل مسئولية حمايتها. وحين ارتفعت الهتافات من الشباب في الشارع ضد المجلس العسكري كان رد الفعل الطبيعي فتح بعض الملفات في قضايا التمويل والتدريب والتشويه واتسعت امام هذا كله الفجوة بين شباب الثورة والمجلس العسكري حتى انتهت تماما العلاقة بينهما في ظل غياب كامل للثقة وصدام أصبح واضحا امام الجميع. في الوقت الذي شاركت فيه جماعة الإخوان المسلمين والسلفيون في الثورة مع قوى الثوار كنا امام نموذج فريد في وحدة الهدف والقضية حتى سقط رأس النظام وبدأت رحلة الانقسامات بين فصائل الثوار، وهنا أخذ الإسلاميون بكل تياراتهم جانبا تاركين التيارات الأخرى تواجه قدرها مع أجهزة الأمن في عمليات تصفية معنوية بل ودموية امام اسلوب مختلف في المواجهة.. وهنا أيضا كان غياب القوى الإسلامية عن أحداث ماسبيرو والبالون والسفارة الإسرائيلية ومحمد محمود ومجلس الوزراء، وكانت القطيعة بين التيارات الإسلامية وبقية القوى الشبابية.. وظهر الانقسام واضحا في البيان الدستوري والاستفتاءات عليه ثم كانت الانتخابات البرلمانية واكتساح القوى الإسلامية.. وحين أعلن مجلسي الشعب والشورى عن تشكيل لجنة صياغة الدستور كان الانقسام قد وصل إلى درجة الصدام المباشر حتى اتضحت صورة الخديعة في الترشيحات الرئاسية التي عصفت بكل إحتمالات التوافق أوجمع الكلمة مرة أخرى. لم يكن التوافق بين المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين بعد الثورة امرا طبيعيا ولكنه كان يثير الكثير من التساؤلات وسوء الظن.. ورغم هذا كله ترك المجلس العسكري التيارات الإسلامية تجتاح الانتخابات البرلمانية وتحصل على أغلبية غير مسبوقة في تاريخ العمل البرلماني في مصر.. وفي المقابل صمت الإخوان المسلمون والسلفيون على محاولات قمع الثوار وتهميش دورهم وإخراجهم تماما من معركة التوازنات بين القوى السياسية.. وكان هناك مايشبه الاتفاق بين اطراف اللعبة إلا ان المجلس العسكري إنزعج كثيرا حينما ظهرت الرغبات الشرسة للتيار الإسلامي في السيطرة على السلطة، وهنا إختفت حالة الثقة المؤقتة وبدأ الحديث عن سحب الثقة من الحكومة والتشكيك في صحة مجلس الشعب ثم كانت معركة لجنة إعداد الدستور وترشيح المهندس خيرت الشاطر للرئاسة رغم عهد قديم من الإخوان بعدم الاقتراب من هذه المنطقة. عادت البيانات العنيفة المتبادلة وتغيرت لغة الخطاب تماما وأصبح الإنقسام حقيقة مؤكدة، ولم يعد غياب الثقة بين أطراف اللعبة شيئا خافيا وأصبح الطريق إلى صدام مباشر خطرا يهدد امن مصر واستقرارها. امام الفراغ الرهيب في الشارع السياسي والتجاوز الكبير في الرغبات والتطلعات بدأت بوادر انقسام بين التيارات الإسلامية، وبقدر ما اتفقت مع ايام الثورة الأولى والانتخابات البرلمانية في تقسيم الغنائم بقدر ما اتسعت هوة الخلافات بينها حول الترشح لمنصب رئيس الجمهورية.. بل إن هذه الخلافات اتضحت داخل جلسات مجلسي الشعب والشورى في إختيار اعضاء اللجنة التأسيسية للدستور. وأمام انسحاب القوى الليبرالية والعلمانية من اللجنة بدا واضحا ان التيارات الإسلامية تحاول توحيد كلمتها رغم مابينها من الخلافات وإن بقيت الانتخابات الرئاسية هي اهم واخطر إختبارات صدق النوايا بين هذه التيارات.. في جانب أخر كانت الانقسامات في سلطة القضاء وما شهده نادي القضاة من خلافات وما حدث في قضية المتهمين الأمريكيين الذين تم الإفراج عنهم في قضية التمويل الأجنبي وما تركته هذه القضية من آثار سيئة لدى القضاة انفسهم امام إهتزاز الثقة في سلطة العدالة. لم يكن غريبا امام كل هذه الظواهر السلبية ان يحدث انقسام حاد بين الأجيال القديمة التي تتحمل المسئولية وبين شباب مصر سواء من ثاروا في ميدان التحرير أو من استشهدوا في بورسعيد، وهنا ايضا دخلت اجيال جديدة من طلاب المدارس ومشجعي كرة القدم ساحة الانقسامات والصدام وإتسعت الفجوة بين ابناء المجتمع الواحد حين فشل الجميع في إيجاد صيغة عاقلة للحوار امام واقع سياسي مرتبك تسوده الفوضى والإنقسام. وسط هذا المناخ غابت الأحزاب السياسية عن المشهد تماما وتحولت إلى توابع تجري وراء هذا أو ذاك، وفقدت دورها وتأثيرها ومواقعها في الشارع المصري حين لعبت على كل الحبال واستسلمت امام إغراءات وهمية لقوى أخرى. ولم يكن هذا بعيدا عن مواكب الليبراليين والعلمانيين الذين تسربوا ليلا من ميدان التحرير تاركين الثوار يلقون مصيرهم باحثين عن شيء من الغنائم، وللأسف الشديد أنهم لم يحصلوا على الكثير.. في كل هذه التغيرات الحادة كان الإعلام المصري يبحث عن دور وحين عادت مواكب الفلول إلى الساحة بأموالها الضخمة كان في استقبالها عدد كبير من مهرجي الإعلام وسماسرة الفضائيات وكذابي الزفة وتحولت ابواقهم إلى منصات لإطلاق الأكاذيب وإعلان الحرب على الثورة والثوار ونشر الفتن بين القوى السياسية بحيث تحملت الثورة كل خطايا المرحلة الإنتقالية وبدأ البكاء على أطلال الزمن الماضي. إن الشئ المؤكد ان المشهد الآن يدعو للأسف الشديد حيث تحول الشارع المصري إلى أبواق لإلقاء التهم والتشكيك في كل شيء والبحث عن الغنائم. لا أحد يعلم هل ما يحدث الأن على السطح هو الحقيقة ام ان هناك اسرارا خفية وبرامج أخرى بين القوى السياسية التي تصورت أنها أخذت كل شيء وهل يمكن ان يسير مجتمع إلى الأمام في ظل هذه الانقسامات التي تهدد بصدام حقيقي قادم.. وكيف يمكن للقوى السياسية ان تتفاوض أو تتحاور في ظل إحساس بعدم الثقة. ومن ترى يثق في الآخر والمجتمع كله لم يعد يثق في بعضه ؟.. المجلس العسكري مازال حائرا بين ثورة لم يقتنع بها تماما واشباح حكم رحلت، ولكنها تظهر من حين لآخر وتبدو واضحة في مواقفه. الإخوان المسلمون حائرون بين مجلس فتح لهم كل الأبواب ويخافون ان ينقلب عليهم في أي لحظة لأن بينهم تاريخا قديما يؤكد ذلك ويفتح ابوابا للشك والإرتياب. والسلفيون لا يصدقون انفسهم حتى الأن وهم يتصدرون المشهد السياسي الذي لم يحلموا به يوما ولم يكن في حساباتهم الماضية أو المستقبلية.. وشباب الثورة الذي فقد ثقته في الأجيال القديمة والسلطة والإخوان والسلفيين وحتى رفاق الميدان الذين هربوا إلى الغنائم هذا الشباب الذي دفع ثمن الثورة ولم يأخذ شيئا منها تحول في نظر البعض إلى بلطجية يقف الجميع ضدهم الآن. في ظل هذا كله كيف نتحدث عن عودة الإستقرار والأمن والرغبة في بناء مستقبل جديد لهذا الوطن ونحن لا نثق في بعضنا، والكل يكذب على الكل وهناك آلاف الأقنعة وآلاف الخناجر ولا أحد يعلم متى يكون الصدام.. كيف تركنا الأشياء تفلت من بين أيدينا وتختفي تماما لغة الحوار ويتحول المجتمع كله إلى أقليات وطوائف وفصائل لا ترى بعضها ولا تسمع.. كيف يحدث ذلك في مصر بلد الفكر والحكمة والثقافة، واي لعنه تلك التي حلت بنا. وما بين صراعات القوى التي كانت بالأمس القريب تقف صفا واحدا في الثورة وجدناها الآن وقد تحولت إلى ميليشيات تصفي بعضها بعضا بينما تنظر مواكب الفلول من بعيد تنتظر فرصة الانقضاض على الجميع ومعها قراصنة العهد البائد العائدين إلى الساحة مرة اخرى ليعيد التاريخ دورته في مستنقع فساد جديد.. .. ويبقى الشعر باريس.. الآن أجلس في ربوعك.. دون همس أو كلام قطعوا لساني إني فقدت النطق يا باريس من زمن بعيد قالوا بأن الناس تولد.. ثم تنطق.. ثم تحلم ما تريد وأنا أعيش وفي فمي قيد عنيد قطعوا لساني.. قطعوه يوما عندما سمعوه يصرخ في براءته القديمة عند أعتاب الكبار إني أحب.. ولا أحب صاحوا جميعا.. كيف لا دخلت لقاموس الصغار صلبوا لساني علقوه علي الجدار قطعوه في وضح النهار من يومها وأنا أقول.. ولا أقول وأري لساني جثة خرساء تنظر في ذهول وأخاف منه فربما يوما يصيح ويثور في وجهي القبيح فلقد رأيت دماءه كالنهر.. تغرق وجه أيامي.. ويسقط كالذبيح وحشيت من غضب الكبار مازلت ألمح طيفه الدامي.. علي صدر الجدار في كل وقت أمضغ الكلمات في جوفي.. وأبلعها وتنزف بين أعماقي.. وتصرخ في شراييني ويحملني الدوار.. إلي الدوار كلماتنا.. جثث تنام بداخلي فأنا أقول.. ولا أقول وأنا أموت.. ولا أموت كلماتنا قتلي.. ودماؤها السوداء في صدري تسيل لا تعجبي باريس من صمتي فصوتي بين أعماقي قتيل باريس.. إني اكتفيت بأن أري عينيك خلف السين كالعمر الجميل فالصبح في عيني شئ مستحيل والحلم في أعناقنا قيد ثقيل كم كنت أحلم.. أن أجيء إليك مشدود الخطي لكن قيدا في الضلوع يشدني وأقوم يجذبني وأصرخ يحتويني.. ثم أسقط كالحطام وأري الكلام يسيل من صدري.. وينزف تحت أقدامي.. ويلقيه الزحام.. إلي الزحام كلماتنا صارت دماء ودماؤنا صارت كلام القيد يا باريس علمني الكثير فالضوء في أيامنا شيء محال والخبز للأبناء عجز.. أو دموع.. أو خيال والحلم في نومي ضلال والصمت أفضل من سراديب السؤال قالوا: لديك يسافر العشاق.. في حلم طويل لا يموت والحب في أعماقنا شبح تغلفه المنايا.. في خيوط العنكبوت وإذا أتيت إليه يجذبني فأهرب.. أو أموت الحب في دمنا يموت باريس.. إني أحاول أن أقول لديك شيئا.. آه من صمتي القبيح قطعوا لساني.. ما زلت أخفي بعضه سرا.. وينزف بين أوراقي أحنطه كتذكار لأيام مضت لي في ربوعك قبل أن أمضي رجاء سيجيء ابني ذات يوم علميه النطق يا باريس أن يحكي.. ويصرخ أن يقول كما يشاء فلقد تركت له لساني بين أوراقي ذبيح حتي تظل دماؤه بعدي تصيح "من قصيدة تأملات باريسية سنة 1989" نقلا عن جريدة الأهرام