مع الموقف الإسرائيلي المصر على استمرار البناء الاستيطاني وفرض الأمر الواقع، ومع ما يجري على الساحة الدولية وخاصة الموقف الغربي وإفشاله (استحقاق أيلول)، بات من الملح فلسطينياً مراجعة العلاقة مع إسرائيل بما فيها وقف التنسيق الأمني، والالتزامات التي تقدمها السلطة الفلسطينية من طرف واحد دون مقابل إسرائيلي. ورغم أن الخيارات الفلسطينية محدودة، فإن حل السلطة الفلسطينية بات خياراً مطروحاً تتناقله علناً قيادات فلسطينية باعتباره الملجأ الأسلم في قادمات الأيام، رغم مسارعتهم لربط أي خطوة بإتمام المصالحة الفلسطينية وإصلاح منظمة التحرير لإنجاح أي خيارات مستقبلية. ولعل أهم ما قيل في هذا الشأن جاء على لسان الرئيس الفلسطيني عباس مؤخراً من أنه "لا وجود لسلطة وطنية فعلية، وأنه لن يقبل القيام بأعمال رئيس بلدية". قيادات فلسطينية عديدة تحدثت بإسهاب حول ما يمكن تسميته وضع ما بعد "فشل استحقاق أيلول"، وضرورة وضع استراتيجية جديدة طالب بها عباس تتطلبها هذه المرحلة. وفي هذا السياق، جاءت تصريحات عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الدكتور محمد اشتية الذي قال إن "عباس شكل لجنة من منظمة التحرير ومن مركزية فتح لوضع استراتيجية فلسطينية جديدة تنظر في شكل ومستقبل العلاقة مع إسرائيل ووظيفة السلطة مستقبلاً، تأخذ بعين الاعتبار كامل المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية لكسر الأمر الواقع مع إسرائيل وإعادة صياغة العلاقة معها"، مشدداً على أنه "وفي كل الأحوال لا يوجد توجه لحل السلطة"، هذا رغم وصفه السلطة بأنها "بلدية كبيرة تقدم خدمات للمواطنين بعدما خنقها الاحتلال في المناطق" بإجراءات تعسفية معروفة، مؤكداً: "نحن نريد الآن أن نكسر الأمر الواقع مع إسرائيل.. لكن سنقوم بإجراءات لا تضرنا بل سنعيد صياغة العلاقة... نحن قمنا بكسر الجانب التفاوضي المعطل بالذهاب للأمم المتحدة وسنكسر الجانب المتعلق بمسار الأمر الواقع عبر استراتيجية جديدة". إذن، الحديث الآن يدور حول استراتيجية جديدة للتعامل مع الواقع الإسرائيلي المفروض على الأرض. والآراء هنا تختلف، فمن مطالب للسلطة بوقف علاقاتها مع الجانب الإسرائيلي فيما عدا القضايا الإنسانية، كأستاذ القضية الفلسطينية في جامعة القدس المفتوحة أسعد العويوي الذي يرى أن الاستراتيجية السليمة تتجلى في "إنجاز مشروع الوحدة الداخلية، وإعادة هيكلة منظمة التحرير"، إلى من يرى -مثل القيادي الفتحاوي نبيل عمرو- أن "السلطة إنجاز وطني يجب الحفاظ عليه وتطويره وتقويته، بحيث تكون ممراً نحو الدولة"، معتبراً أن أي خطوة نحو إضعاف السلطة أو حلها تعني أن هناك خطراً يهدد المنطقة بأسرها، محذراً من أوساط فلسطينية تتحدث باتجاه الحل، لكن "الرأي الشعبي الكاسح ضد أي صوت ينادي به"، حسب تقديره. وربما يجب التذكير هنا بتصريحات عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" عزام الأحمد عندما قال: "السلطة لا تُحل وإنما تنهار"، وإذ يتحفظ الكاتب "محمد خروب" على هذا الطرح، فهو يضيف: "السلطة الفلسطينية الحالية هي سلطة وهمية وغير موجودة بشكل فعلي إلاّ بجانب محدد وفق ما تريد إسرائيل. ثم يضيف: "إذا كانت إسرائيل هي التي تتحكم في مصير السلطة، فلتذهب هذه السلطة إلى الجحيم". حسناً... هنا لا يمكن تجاهل آراء تصب في هذا السياق، فمدير المركز الفلسطيني للأبحاث والسياسات الاستراتيجية هاني المصري يقول دون مواربة: "لا يمكن أن تكون السلطة جنين الدولة الفلسطينية القادمة حيناً، وحارسة للاحتلال حيناً آخر، فإما هذا أو ذاك. إن تغيير الاستراتيجية الفلسطينية سيقود إلى مجابهة شاملة مع الاحتلال قد تنهار السلطة الحالية في مجراها، وشتان ما بين حل السلطة كضربة يأس، وبين تغيير وظائفها والتزاماتها أو انهيارها في مجرى المواجهة، الذي سيقود في هذه الحالة إلى نشوء سلطة مقاومة بدلا عنها". ويضيف: "المطلوب تحويل السلطة إلى سلطة صمود ومقاومة شعبية، وتحويل الدور السياسي من السلطة إلى المنظمة وتخفيض عدد الأجهزة الأمنية مع إبقاء جهاز الشرطة"، موضحاً أن الأجهزة الأمنية وموازنتها الضخمة شكلت حماية للاحتلال، ويمكن تحويل أفرادها إلى أعمال أخرى "وبالتالي تحويل المنظمة تدريجياً إلى حكومة السلطة الانتقالية". وبشأن الحديث عن استراتيجية جديدة يقول: "المصالحة والوحدة الفلسطينية هما المدخل لبناء الاستراتيجية الجديدة خاصة إذا حلت السلطة وتم تغيير شكلها ووظائفها"، لكنه استدرك بأنه لا مؤشرات جدية على قرب تحقيق ذلك. ورغم هذا وذاك، ثمة من يطرح خيارات بديلة، خاصة وأن حل السلطة يطرح أسئلة كثيرة، لاسيما حول الوضع في قطاع غزة: فهل ستلتزم حركة "حماس" بالتجاوب مع هذا الخيار مثلاً؟ وماذا عن ربع مليون فلسطيني في الضفة والقطاع من العاملين في السلكين المدني والعسكري للسلطة؟ وفي هذا يقول الكاتب ماجد كيالي: "المؤسف والمقلق أنه لا يمكن العثور في مجموعة تصريحات المسؤولين الذين تحدثوا عن هذا الخيار جواباً على أي من هذه الأسئلة أو غيرها، ما يثير المخاوف مجدّداً بشأن الطريقة التي تتّخذ فيها القرارات وتعتمد فيها الخيارات في الساحة الفلسطينية، والتي غالباً ما تتم بطريقة مزاجية ومتسرّعة وغير مسؤولة". ويضيف الكاتب: "ثمة خيارات بديلة لحل السلطة، يمكن أن تؤدي الغرض نفسه وأكثر، لكن من دون أن تقدم لإسرائيل هدية مجانية تتمثل بإنهاء الكيان السياسي الفلسطيني. وهكذا، بدلاً من حل السلطة، يمكن القطع مع الوظيفة التفاوضية والأمنية لها إزاء إسرائيل، وإلغاء الاتفاقات الاقتصادية المجحفة معها، بحيث تقوم السلطة ككل بإدارة حالة عصيان مدني ضد الاحتلال، وبدلاً من إنهاء هذا الكيان السياسي، يمكن تحويله إلى كيان لتنظيم أوضاع الفلسطينيين في الضفة والقطاع وتأمين متطلبات صمودهم في وجه الاحتلال، بما في ذلك إدارة المقاومة الشعبية ضده". ويتابع: "ثمة خيار آخر يتمثل بوقف التماهي المضر بين المنظمة والسلطة، والتمييز بين السلطة كونها شأناً خاصاً بفلسطينيي الضفة والقطاع، وبين المنظمة باعتبارها كياناً يخص كل الفلسطينيين ويؤطّر كفاحهم ضد إسرائيل، ما يفرض إخلاء مسؤولية المنظمة عن إدارة السلطة مع بقائها مرجعية سياسية لها". وقد قيل ما قيل، إن حكمة أو جهلا، غير أن اللحظة الفلسطينية الحالية ينبغي استثمارها جيداً. ورغم فشل جوانب من استحقاق أيلول، فالمطلوب أولا وقبل كل شيء الإصرار على حمل ملف القضية الفلسطينية إلى المجتمع الدولي لإنفاذ عديد القرارات ذات الصلة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفرض الوصاية الدولية على الأراضي المحتلة كمرحلة انتقالية. أما داخلياً فالمطلوب إعادة بناء البيت الفلسطيني على أسس وطنية ومؤسسية وتمثيلية وديموقراطية. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية