تعرفت على "المنصف المرزوقي" رئيس تونس المؤقت قبل قرابة عشرين سنة في بيروت خلال أحد المؤتمرات الفكرية – السياسية، التي شارك فيها أيضاً شخصيات تونسية مرموقة من معارضة بن علي ": الوزير الأول الأسبق "محمد مزالي" والزعيم السياسي المعروف "أحمد بن صالح" (الرجل القوي في بداية العهد البورقيبي) والشيخ "راشد الغنوشي" مؤسس حركة النهضة و"أحمد نجيب الشابي المحامي والسياسي النشط حالياً. لم يكن بإمكاني وقتها التنبؤ بأن الطبيب المشاكس المنحدر من الجنوب التونسي المهمش والمتمرد، الذي طارده نظام بن علي سيكون أول رئيس في العهد الديمقراطي في سياق صفقة ائتلاف رابحة مع الاتجاه الإسلامي. ومع ما يمكن أن يوجه للرجل من انتقادات تتعلق بمؤهلاته السياسية وخبرته في الحكم، فمما لاشك فيه أن وصوله للسلطة يكتسي دلالة رمزية قوية على القطيعة مع حقبة كاملة من تاريخ الدولة التونسية الحديثة. وفي ما وراء هذا الحدث البارز، يمكن القول دون مماحكة إن التجربة التونسية الحالية صالحة لأن تكون مختبراً للأوضاع العربية الانتقالية في رهانات ثلاثة مطروحة بقوة في الساحات العربية الأخرى التي شهدت ثورات مماثلة: التسيير الانتقالي للحكم، ومنزلة المؤسسة العسكرية في مسار التحول، وعلاقة التيار الإسلامي الصاعد بباقي مكونات المشهد السياسي. فبخصوص الرهان الأول (التسيير الانتقالي للسلطة)، اعتمدت الطبقة السياسية التونسية خيار آليات الانتقال الدستورية، على الرغم من المصاعب الجمة التي تولدت عن هذا الخيار، وفي مقدمتها انعدام الثقة في المؤسسات الموروثة عن العهد السابق. وهكذا تم الحفاظ على البنية الدستورية القائمة، وإنْ تم تفريغها من مضامينها بتعليق البرلمان وسحب سلطات الرئيس المؤقت وتخويلها لرئيس الحكومة التوافقي، وإنشاء هيئات موازية للإصلاح السياسي ولتسيير المسلسل الانتخابي. مكن هذا الخيار من الحفاظ على خط الشرعية تفادياً لمخاطر الفراغ السياسي، وسمح بتأجيل حسم الإشكالات السياسية الجوهرية إلى المرحلة الراهنة التي جرى فيها تطبيع الوضع السياسي من خلال انتخابات شفافة ونزيهة لهيئة تأسيسية كاملة الشرعية. في مقابل الحالة التونسية، اضطلع الجيش في مصر بتسيير المرحلة الانتقالية خارج الضوابط الدستورية، مما شكل ازدواجية مربكة في المسار السياسي، وولد أزمة شرعية متفاقمة أفضت في نهاية المطاف إلى المأزق الحالي الذي لا يلوح في الأفق أي مخرج منه (القطيعة بين المؤسسة العسكرية والطبقة السياسية). وفي حين لا يمكن اعتماد النموذج التونسي في الحالة الليبية باعتبار غياب حياة سياسية طبيعية في العهد الجماهيري المندثر، الذي كان يفتقد للحد الأدنى من القاعدة الدستورية المتماسكة والمعقلنة، فإن الفرقاء السياسيين "اليمنيين" اتجهوا إلى مسار قريب من التجربة التونسية. على الرغم من خصوصيات الوضع الأمني والاجتماعي المحتقن الموروث عن عهد الرئيس المتنحي "علي عبد الله صالح". وبخصوص الرهان الثاني (دور ومنزلة المؤسسة العسكرية) مكن التوافق الصريح والناجع بين قيادة الجيش والقوى السياسية في تونس من إبعاد المؤسسة العسكرية عن الصراع السياسي وقبولها أداء دور الراعي الأمين والمحايد للمسار الديمقراطي التعددي. أما في الحالة المصرية، حيث يضطلع الجيش بحكم البلاد منذ خمسين سنة، فقد قامت شكوك كثيفة حول حياده في المعترك السياسي، وبدت أحياناً مؤشرات مقلقة على عزمه الاحتفاظ بمقاليد القرار سواء من خلال ترشيح أحد قياداته للرئاسة أو دعم أحد المرشحين الآخرين أو فرض إطار مسبق للبنية الدستورية القادمة يضمن له سلطات وصلاحيات كبرى خارج أي ضبط سياسي. وإذا كان انهيار النظام الليبي قوض المؤسسة العسكرية التي كانت قائمة ولم تكن جيشاً محترفا بالمفهوم المألوف، فإن الخشية قائمة من أن يتحكم أمراء الحرب الذين قادوا معركة إسقاط النظام إلى زعامات المشهد السياسي، مما سيحول دون قيام ديمقراطية تعددية بالمعنى الحقيقي للعبارة. إنه الخطر المحتمل نفسه في الساحة اليمنية التي تتداخل فيها المعطيات القبلية بالتنظيمات المسلحة والتشكيلات السياسية. وبخصوص الرهان الثالث (علاقة التيار الإسلامي بالقوى السياسية الأخرى)، أدركت حركة "النهضة" منذ بداية المسار الانتقالي تحديات التموقع داخل الساحة السياسية التي تتمحور حول صراع إيديولوجي حاد بين الاتجاهين التأصيلي الإسلامي والتحديثي العلماني، ولهذا الغرض سعت إلى استمالة جناح واسع من التيار "اليساري المعتدل"، وراجعت خطابها الفكري والانتخابي لكسر حاجز الخوف مع القوى السياسية القلقة على مكاسب التجربة التحديثية البورقيبية من مخاطر التطرف الديني. وهكذا مكنت هذه الاستراتيجية من بناء التحالف الثلاثي الذي يتشكل منه نظام الحكم الجديد، كما سمحت بإعطاء ضمانات ثقة لشركاء تونس الدوليين الذين رحبوا بالمعادلة السياسية الجديدة في تونس. ولا يبدو أن المراجعة ذاتها حدثت في أي من البلدان العربية الأخرى (مصر وليبيا واليمن)، في الوقت الذي توحي المؤشرات العينية بأن التنظيمات الإسلامية في الدول المذكورة قد تكون الطرف الأول المستفيد من الحراك الديمقراطي، فالتصريحات المعلنة لزعامات التيار "الإخواني" بمصر حول هوية الدولة وطبيعة النظام السياسي والعلاقة بالطيف السياسي توحي بأن الجماعة التي شكلت حزباً سياسياً صاعداً لم تحسم بعد فكرياً العديد من الإشكالات الجوهرية المتعلقة بالتعددية العقدية والإيديولوجية وبنسق الحريات العامة. وفي حين لا يعرف الكثير عن التيار الإسلامي الليبي الذي يضم مكونات عديدة منها اللون الإخواني والمجموعات السلفية المتشددة، فإن حزب "الإصلاح" اليمني الذي له حضور قوي في الساحة السياسية هو أقرب للائتلاف المرن بين القبيلة والتنظيم الأيديولوجي، وإن كانت المكونات الإخوانية والسلفية غالبة على قاعدته السياسية. ومن هنا يمكن القول إن مسارات التحول السياسي في البلدان العربية التي شهدت الحراك الثوري متمايزة، متباينة، بحسب خلفيات ومعطيات الحقل الاجتماعي – السياسي في كل منها، وإذا كانت التجربة التونسية من هذا المنطلق تمثل حالة فريدة، فإنها تقدم دروساً مهمة للتأمل والاعتبار والاختبار، حتى لو كان استنساخها متعذراً وتصديرها ممتنعاً. نقلا عن صحيفة الاتحاد