نخطئ كثيرا إذا توقفنا الآن أمام تفاصيل المشهد السياسي الراهن، وإذا وجهنا اهتمامنا فقط إلى الإجابة عن تساؤلات تخص أحداثا جزئية او مطالب وقتية. لأننا بذلك سنغفل عن السياق العام التي تجري في إطاره هذه الاحداث، ولم نفهم بدقه المنطق الذي يحكم حركتها. فما يجري في مصر منذ 25 يناير 2011 تحكمه ثلاث حقائق كبرى من المهم للغاية ان نستوعبها وان نتصرف على اساسها وان ننظر إلى التطورات في ضوئها: الحقيقه الاولى: ان مصر دخلت مع 25 يناير مرحلة جديدة من تطورها هي مرحلة ثورية بالمعنى الحقيقي للكلمة، اي تستهدف إجراء تغييرات جذرية في الاوضاع السائدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تقيم نظاما جديدا يتمتع فيه المصريون بحقوقهم كاملة في إدارة شئون البلاد على اساس ديموقراطي ولن تتوقف التطورات إلى ان تتحقق اهداف هذه المرحله الثورية كاملة، وتتجسد شعارات الثورة الكبرى في مؤسسات جديدة ابتداء من الدستور إلى البرلمان إلى الحكومة بحيث تتحقق هذا الشعارات عمليا وهي الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. قد تبطئ حركة الثورة او تسرع. قد تتراجع قوة الدفع الثوري او تتواصل. قد يسقط الشهداء والضحايا بأعداد كبيرة او قليله. ولكن السياق العام لهذه المرحله هو الاستمرار حتى تتحقق اهدافها كاملة. ربما يستغرق ذلك سنة او سنتين او اكثر ولكن العملية الثورية لن تتوقف إلا عندما تتحقق هذه الاهداف وتشهد مصر نظاما جديدا يجسد التغيير الثوري المطلوب. في هذا السياق يمكن ان ننظر إلى ما يجري الآن، ويمكن ان نفهم ان المطالبة بحكومة انقاذ وطني تتمتع بصلاحيات كاملة تمكنها من مواجهة المشكلات الكبرى الراهنة إنما هي خطوة ضرورية لضمان استمرار الثورة إلى ان تحقق اهدافها كاملة. ويمكن ايضا في هذا السياق ان نفهم اهمية المطالبة بجدول زمني في توقيتات محددة لمهام المرحله الانتقاليه بحيث يتم تسليم السلطه إلى هيئات مدنية منتخبة في موعد اقصاه خلال 2012. الحقيقه الثانية: التي تحكم ما يجري الآن في مصر وما سوف يجري خلال السنوات القادمة إلى ان تتحقق اهداف الثورة كاملة هي ان الشباب هم القوى المحركة للثورة وهم الذين يدفعون الامور للامام، وهم الذين يقدمون أرواحهم فداء لها وهم الذين يواصلون الضغط من اجل تحقيق اهدافها كاملة هؤلاء الشباب هم امتداد لأجيال سابقة من شباب مصر اخرجوها من ازمات مماثلة في ثورة 1919 وثورة 1935 وقبل ثورة 1952 وبعد هزيمة يونيو1967. والجيل الجديد من شباب مصر يختلف عن النخبة السياسية التي تدير الحركة السياسية الان فهم ليسوا على استعداد لأنصاف الحلول، وهم مسلحون بقيم جديدة وافكار جديدة استلهموها من روح العصر وافضل ما وصلت إليه البشرية من معارف وخبرات. قادرون على التعامل مع الاحداث من خلال اساليب فعالة ابتكروها في سياق الثورة خاصة الحشد الجماهيري للضغط على صانع القرار وتعويض نقطة الضعف الحقيقية في الثورة المتمثلة في عدم وجود قيادة سياسية متبلورة للثورة قادرة على تسلم السلطة، وهم من خلال نضالهم المتواصل قادرون على بلورة هذه القيادة من صفوفهم ودفعها إلى مواقع السلطة في الوقت المناسب. اما الحقيقة الثالثة التي تحكم مسار الثورة فهي ان الاحزاب والقوى السياسية في مصر تمارس دورها بخبرات واساليب وافكار موروثة من تعاملها مع نظام مبارك والتي تدور اساسا حول التكيف مع الاوضاع السائدة، وهي خبرات و اساليب وافكار تختلف جوهريا مع خبرات واساليب الشباب المتمرد على هذا النظام والذي رفض التكيف مع الاوضاع السائدة، من هنا فإن ما تطرحه الاحزاب والقوى السياسية من حلول للأزمات التي تقابل الثورة في كل مرحلة من مراحلها لا يكفي لإيجاد الحل الحقيقي للأزمة برغم أنه قد يكون نابعا من تحليل منطقي لمعطيات الوضع. وسيبقى الحل دائما في يد الشباب الذي تمرد على الواقع ولديه بالفعل القدرة على طرح ما لا تتصوره النخبه السياسيه ممكنا في اللحظة الراهنة على ضوء معطيات الواقع (مثال ذلك المطالبه بتنحي مبارك من قبل ورحيل المجلس العسكري الآن). تؤدي هذه المفارقة بين القدرة المحدودة للنخبة السياسية على التعامل مع الازمات التي تمر بها الثورة وبين الفعالية التي يتمتع بها شباب الثوار إلى طرح مسألة مستقبل هذه النخبة السياسية وضرورة ان تعيد القوى والاحزاب السياسية النظر في اوضاعها وان تطور قدراتها بالعمل في اتجاهات ثلاثه: الاتجاه الاول هو العمل الجماهيري المكثف خاصة في صفوف الشباب لكسب عضوية جديدة وتكوين قاعدة جماهيرية واسعة تمكنها من اكتساب الفعالية المطلوبة لما تطرحه من افكار. والاتجاه الثاني هو تجديد قيادتها بإدخال الشباب في صفوف القيادة العليا لهذه الاحزاب، والاستفادة من روح الشباب في التعامل مع الاحداث والتطورات. لم تعد الاجيال الحالية من قيادات الاحزاب قادره على التفاعل بكفاءة مع المستجدات والاحداث والتطورات الجارية، وعليها ان تمنح الفرصه للشباب في قيادتها لضمان الاستمرار لاحزابها مع كل التقدير والاحترام لما قدمته من تضحيات في نضالها ضد النظام السابق. اما الاتجاه الثالث الذي يتعين على الاحزاب ان تعمل من اجله فهو ان تكثف حوارها مع بعضها من اجل التوصل إلى رؤية سياسية مشتركة حول اهداف ومهام العملية الثورية واساليب تحقيقها ومراحل نضالها. خلاصة القول ان ثورة 25 يناير ليست حدثا طارئا يمكن لأي قوة مهما تكن ان تصفيه بل هي ثورة مستمرة لا يمكن ان تعود مصر بعدها إلى ما كانت عليه بل سوف تظل جذوتها متقدة إلى ان تنير البلاد بثمارها اليانعة من خلال التغيير الجذري الشامل الذي ستحققه في اوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية من نظام سياسي ديموقراطي إلى اقتصاد متقدم إلى عدالة إجتماعية متحققة. وسيبقى الشباب القوة الدافعة لعملية التغيير المطلوبة وعلينا جميعا ان نتقبل كل التضحيات المطلوبة من اجل تحقيق هذا الإنجاز العظيم الذي ناضل من اجله الشعب المصري على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين. نقلا عن جريدة الأهرام