شاركت مؤخراً في منتدى "الاتحاد" السنوي السادس في أبوظبي مع نخبة من المفكرين العرب لمناقشة مايسمى ب "الربيع العربي" أو "الثورات العربية"، وهي تسمية فيها تضخيم ومبالغة، فضلاً عن أن مصدرها هو "أوباما". فالثورة، كما تعلمنا، يجب ان تملك أجندة إصلاحية واضحة الأهداف والملامح، ويجب أن تكون لها قيادة معروفة ذات رشد سياسي وتاريخ طويل في الحراك المجتمعي، وهو مالم يتوفر لا في الحالة المصرية، ولا في الحالة التونسية، حيث كان التحرك في هاتين الحالتين بقيادة مجموعات شبابية مغمورة سياسياً، وليست متفقة على هدف سوى إسقاط رأس النظام ورموزه، وليأت الطوفان بعد ذلك، وقد جاء الطوفان بالفعل سريعاً في صورة غياب الأمن، وتراجع الاقتصاد القومي، وضرب السياحة، ناهيك عن التظاهرات الإسبوعية "المليونية"، والشحن الطائفي البغيض، على نحو ما حدث بين المسلمين والأقباط في الدولة العربية المركزية، مصر، التي في اختلال أمورها، وتدهور أحوالها، انعكاسات سلبية خطيرة على العرب أجمعين. ثم إن الثورة، بالمفهوم المتعارف عليه، يُفترض أن تضم كافة مكونات الوطن. وهذا لئن حدث في الحالتين المصرية والتونسية، فإنه لم يحدث في الحالة البحرينية مثلًا، حيث من قام بالدعوة إلى الانقلاب طائفة واحدة مرتهنة لتعاليم مرجعيتها المذهبية الأجنبية، بل فصيل واحد داخل تلك الطائفة تؤازرها مجموعات سياسية أفلست إيديولوجيا ولم يعد لها صوت أو ثقل على الساحة منذ زمن بعيد. وهذا، طبعا، خلق انقساماً مجتمعياً حاداً لم تشهده البحرين في كل تاريخها المعروف بالتسامح والتآلف. وعلى قدر سعادتي بحضور المنتدى، ولقاء الزملاء الخليجيين والعرب، فإني صُدمت بالصورة الضبابية التي يحملونها عما حدث في بلدي البحرين من أحداث مؤسفة. وهذا لئن كان سببه ضعف إعلامنا الرسمي وتأخره في نقل الصورة إلى الخارج بتفاصيلها الدقيقة من جهة، وفاعلية الإعلام المضاد الممول من الأقطار التي لا تريد الخير للبحرين والخليج من جهة أخرى، فإن ما ضاعفه هو الحماس المفرط المعروف عند بعض إخوتنا من عرب الشمال للثورة والانقلاب والتغيير، على الرغم من أن الثورات التي يتحدثون عنها لا تزال في مرحلة المخاض، أو الصورة "الخداجية" غير المكتملة. ولا يعني كلامي هذا أني أبخس حق أحد في تبني ما يشاء من المواقف إزاء أي حدث. لكن اعتراضي الوحيد هو أن يُنظر إلى الصورة بصفة شمولية، وبالتالي يُقال عن المشهد البحريني مثلا نفس ما يُقال عن المشهد المصري أو التونسي أو السوري أو اليمني أو الليبي، دون أدنى تمييز لجهة نوعية الحراك، وأهدافه المعلنة والخفية، والأساليب والشعارات المستخدمة فيه، والجهات التي تقف وراءه، والمكونات المجتمعية الداعمة له، ناهيك عن طبيعة ردود فعل النظام ومدى استجابته لمطالب الحراك. ومن هنا، ورغم ضيق الوقت المتاح للمداخلات، فإني إقتنصت الفرصة للتشديد على ضرورة الحذر من وضع حركات الإحتجاجات العربية كلها في سلة واحدة، ومن ثم الإدعاء بأنها ثورات إصلاحية تنشد العدالة والمساواة والديمقراطية. فلكل بلد ظروفه التي انعكست على من خرجوا فيه بدليل الشعارات التي رفعوها والتي تراوحت ما بين "الشعب يريد إسقاط النظام" في أقصاها، وبين "الشعب يريد فانوس كهرب" في أدناها (الحالة العراقية). وأي مراقب موضوعي لئن ساوى بين ما حدث في مصر (حيث راكم رموز النظام الثروات على حساب الشعب الفقير، ونشروا الفساد، وأهدروا كرامات الناس) وما حدث في ليبيا (حيث بدد رأس النظام ثروة بلاده النفطية في المغامرات الخارجية البليدة على مدى 42 عاما) وما يحدث في أماكن أخرى من قتل ممنهج وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فإنه من الصعب عليه أن يضع البحرين في مصاف هذه الدول إنْ كان منصفاً. ففي الأخيرة كرر عاهل البلاد مراراً تمسكه بحزمة الإصلاحات السياسية التي أطلقها قبل عشر سنوات. وقتها كان أقصى ما تطالب به المعارضة هو تشكيل برلمان منتخب، فإذا بالملك يعطيها دفعة واحدة ما لم تكن تتوقعه، مسبباً لها حالة من الارتباك. حيث شملت التغييرات، بالإضافة إلى البرلمان المنتخب، سن دستور عصري حديث، للمرأة فيه الكثير من الحقوق التي كانت غائبة سابقا، وتبيض السجون من معتقلي الرأي، وإلغاء قانون أمن الدولة، والسماح بعودة المبعدين السياسيين، وإطلاق حرية تكوين الجمعيات السياسية والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، بل صارت الدولة تدفع من ميزانيتها العامة مخصصات مالية لجمعيات المعارضة من أجل أن تتعلم ألف باء السياسة والمعارضة، أو تصدر نشراتها الحزبية، أو تنفق على أنشطتها. ومما ذكرته في مداخلاتي في منتدى "الاتحاد" أنه من الأفضل ألا نشطح كثيرا في الانتصار لما يطلق عليه "ثورات"، خصوصاً وأن التاريخ العربي المعاصر لا يذكر لنا حسنة واحدة للثورات التي شهدتها البلاد العربية، مضيفاً: إن الأصوب أن نطلق على ما حدث "ثورات الشباب العربي في استخدام تقنيات الاتصال الجماهيري الحديثة". حيث استغلها البعض في عملية التحشييد والتظاهر للوصول إلى إسقاط الأنظمة، بينما استغلها البعض الآخر – كما في حالة البحرين – لتزييف الحقائق وإطلاق المغالطات والأكاذيب وتشويه سمعة وطنه، وذلك من خلال التواصل مع بعض الفضائيات المعادية للخليج. وكانت النتيجة أن انطلت الأكاذيب على وسائل إعلامية عالمية لها سمعتها مثل "البي. بي. سي"، و"السي. إن. إن"، وغيرهما من شبكات التلفزة والصحافة. فراحت تنشر المتداول في صفحات "التويتر" و الفيسبوك" كأنها مسلمات، دون أن تكلف نفسها التمحيص أو سماع وجهة النظر الأخرى. وأخيرا فإن الحالة البحرينية تحديدا جسدت الظاهرة العربية المزمنة أي التركيز على النتائج وإغفال الأسباب. إذ لم تتحدث قنوات التلفيق العربية والأجنبية عمن قام بالتخريب، وقطع الطرق، والاعتداء على العمالة الآسيوية، واحتلال وسرقة مجمع السلمانية الطبي، ودهس رجال الأمن بالسيارات، وتعطيل اليوم الدراسي، واستخدام المراهقين في المغامرات الليلية الطائشة، ودفع النساء لاقتحام المجمعات التجارية، ثم التباكي على اعتقال "الحرائر"، والدعوة إلى قيادة المركبات ببطء بقصد شل الحركة المرورية. فهذه كلها مبررة في نظر "الثوار"، لكن أن تطبق الدولة القانون لحماية حريات وحقوق مكونات المجتمع الأخرى غير المؤيدة لمثل هذه الأعمال الصبيانية المغلفة بغلاف "الربيع العربي" فذلك-لديهم- انتهاك للحقوق، وتمييز، واضطهاد. نقلا عن صحيفة الاتحاد