حين تحدث عدد من كبار القيادات السياسية والتنفيذية عن تخطيط الدولة ل قاهرة متجددة سوف يكتمل ظهورها في عام2050, كان ذلك الحديث استجابة صحيحة لما أصاب العاصمة المصرية من أمراض مستفحلة, ومع ذلك فلقد تساءل كثيرون عن المنظور العلمي العام لهذا التخطيط, بينما توقف اخرون عند التناقض بين ما يجري تنفيذه بالفعل في العشوائيات التي تمددت وتضخمت بشكل سرطاني حول القاهرة, وفي قلبها خلال نصف القرن الأخير حتي أصبحت تشكل نسبة كبيرة( غالبة) من المساحة الكلية للقاهرة الكبري تلاحق حتي أكثر الأحياء تنظيما وجمالا وحداثة إضافة إلي التغافل عن غزو السلوك العشوائي( لا اقول: الهمجي) وسيطرته علي الكثير من جوانب ونشاطات الحياة اليومية في العاصمة الكبري العريقة... توقف الكثيرون عند التناقض, بين ما يجري في العشوائيات والتغافل عن هذا الغزو, وبين الحديث المسئول عن التخطيط لاستعادة النظام والجمال والتناسق إلي القاهرة في خلال مدة نحو اربعين سنة( نحو عمر جيل واحد فقط) وهي مدة زمنية قصيرة للغاية بالنسبة لمهمة عالية التكلفة الاقتصادية, وثقيلة شديدة التعقيد والتشابك بين مكوناتها. غير أن العلاقة وثيقة للغاية بين التساؤل عن المنظور العلمي العام للتخطيط لتجديد القاهرة, وبين التوقف عند التناقض بين الحديث عن هذا التخطيط وبين الاستسلام لنتائج العشوائية المسيطرة علي كل من التمدد السرطاني للمدينة وسلوكيات سكانها بكل مستويات المسؤوليات المدنية والرسمية أو مستويات انعدام الاحساس بمثل هذه المسؤولية. فالمدة الزمنية القصيرة المطروحة للوصول الي الغاية المحددة تقتضي أن نشرع في وقت واحد في إزالة العشوائيات المادية القديمة والجديدة, مع تطوير المناطق التي سينقل اليها السكان أو التي قدموا منها; وفي مقاومة العشوائية السلوكية وردعها; ولا تقتضي ما نراه من التطوير الهزيل للعشوائيات المادية, والاستسلام الكامل لعشوائيات السلوك ولنتائج عشوائية اللاتخطيط القديم. ولكن هذا يتطلب القيام بشيء من البحث العلمي اللازم لتوثيق الامكانات, وتحديد الأولويات وتعيين المراحل, ولانارة الرأي العام وتربيته بحقائق أن استعادة النظام والجمال والانضباط( أو غرس كل ذلك حيث لم يكن له وجود!) هو في صالح الجميع لأنه يؤدي الي تراكم سريع لثروات عديدة, بشرية ومادية, يتقاسمها تلقائيا كل من يعيش في المدينة أو يزورها, ثروات من الوقت ومن الصحة ومن مصادر الطاقة ومن العمر الافتراضي للمرافق كلها ولكل ساكن ومتحرك علي ارض المدينة في باطن او تحت شوارعها!... والبحث العلمي المطلوب يتوزع بين مجالات علمية وبحثية عديدة, تتجمع موضوعاتها ونتائجها في علم التخطيط العمراني الذي يجمع تخصصات عديدة في علوم الاقتصاد والهندسة والاجتماع والتربية والسياسة والنفس والاسكان والجغرافيا والتاريخ وكثير غيرها, وكثير من فروعها المتداخلة... فقد يدلنا البحث العلمي المتعدد المنظورات المنهجية, المتفاعلة, علي حل آخر لمشكلة العشوائيات الكثيرة الجديدة التي نشأت حول القاهرة خلال نصف القرن الأخير; حل يختلف عن الحل المتمثل في إمدادها بالكهرباء والمياه والصرف الصحي, بشبكات واهنة, سرعان ما تتلف لسوء استخدامها من السكان غير المتطورين أو سرعان ما تستهلك لضعف أو هزال تكلفتها( فاقتصادنا القومي له حدوده وعقليتنا السائدة لها جوانب قصورها التي لم نعالجها بعد) وقد يدلنا البحث العلمي المتفاعل هذا إلي أن تطوير المواطن الأصلية لسكان هذه العشوائيات واعادتهم إليها بالقانون سيكون أقل تكلفة بكثير وأعلي عائدا ماديا وبشريا بكثير, غير أن الاستسلام قد يكون أسهل واعلي عائدا من الناحية الدعائية, المؤقتة مع ذلك, لأن سرعة تدهور تلك العشوائيات تسبق بكثير سرعة تطويرها وطاقة الامكانيات ال مرصودة للتطوير( فلنتأمل بشكل علمي مالحق بالتطوير الذي نعمت به إحدي أوائل تلك العشوائيات الجديدة: عزبة الجمهورية شمال شرق القاهرة أو أرض اللواء بجنوبها الغربي; أو لنقرأ ما كتبته الأديبة الشابة الأستاذة سهير المصادفة, عن ناس العشوائيات المطورة وسلوكياتهم ومآسيهم في روايتها الواقعية المهمة: لهو الأبالسة)... أما عن ضرورة اللجوء الي البحث العلمي المتعدد والمتفاعل والمجدي, فقد يسعفنا مثال واحد لنوضح أهميته; وليكن هذا المثال هو مشروع نقل المدابغ من مكانها الحالي في مصر القديمة إلي الموقع الجديد; وهو مشروع بالغ الأهمية لتطوير هذه الصناعة المصرية العريقة وربما لانقاذها; ولتطوير جنوب وشرق القاهرة/ المترامي كله. سوف يشمل البحث العلمي( وربما قد شمل بالفعل) مسائل أو مشاكل تتعلق بالتكلفة الكلية والتفصيلية لعمليات إنشاء المدابغ الجديدة ومساكن العاملين فيها وربما ملاكها أيضا; ولعمليات إمداد المنشآت الجديدة بالمرافق بالمستوي المطلوب, حتي لا تنهار بعد قليل مع عمليات تدريب العاملين علي تقنيات جديدة وعلي أساليب استخدام المرافق بطرق ملائمة... وسوف يصل البحث العلمي إلي حل مشاكل تتعلق بعمليات نقل الخامات بأنواعها إلي المدابغ, والمنتجات الي الأسواق وبعمليات ومتطلبات التعليم والعلاج والترفيه واقامة شعائر الدين في المناطق الجديدة; وقد يتطلب الأمر بحث رغبات العاملين في السكن في مجاورات تكفل المحافظة علي العلاقات الاجتماعية القديمة وربما المتوارثة عبر أجيال بين جيران أو أقارب أو زملاء عمل أو اصدقاء, لما لهذه العلاقات الاجتماعية من أثر مهم, اجتماعي ونفسي, لرفع الروح المعنوية وبعث الاحساس بالاستقرار والطمأنينة والأمن بين أفراد التجمعات الانسانية... بل إن البحث العلمي قد يتوصل إلي أسباب نشوء واستقرار صناعة الدباغة في هذا الجزء من الصحراء الذي كان يفصل بين الفسطاط القديمة وبين القاهرة الفاطمية والأيوبية, بالقرب من النيل وفم الخليج: أكان ذلك لسهولة الحصول علي المياه اللازمة لهذه الصناعة من النيل مباشرة, أم لسهولة وصول الجلود وبقية الخامات علي المراكب النيلية من الصعيد والدلتا, أم لأن العاملين كانوا يأتون من الأرياف القريبة في شمال الصعيد وجنوبالجيزة والبحيرة; أم أنه كانت هناك اسباب ثقافية واجتماعية خاصة; وسوف يكشف البحث الاجتماعي/ الاقتصادي والهندسي/ التكنولوجي أن كل هذه الاسباب قد زالت أسسها, فالمياه والخامات والمنتجات تنقل وتوزع بأساليب وتقنيات مختلفة جذريا; والصناعة أصبحت تطلب عاملين من مستوي تعليمي وتدريبي مختلف أكثر تطورا بكثير عما كانت في الماضي ولم تعد للصناعة علاقة بطرق الانتاج التي سادت حين نشأت أو استقرت في مصر القديمة, في العصور الوسطي أو قبلها, والموقع نفسه لم يعد هو الصحراء الخالية المترامية بين سور الفسطاط وسور القاهرة الأيوبية, وإنما اصبح امتدادا لعدد من أهم أحياء القاهرة الكبري وأصبح قاطعا يعترض عددا من أهم شرايين الحركة فيها.. إلخ.. إلخ.. غير أن التخطيط الذي يتحدث عن نقل الكثير من أجهزة الحكومة( الوزارات وغيرها) الي خارج القاهرة, قد يعني في الجانب الاجتماعي تغييرا كبيرا في طبيعة التركيبة السكانية( الاجتماعية) لأهل العاصمة; إذ قد يؤدي الي هجرة عشرات الألوف من الأسر المتوسطة الأقرب إلي الحداثة و حسنة التعليم من العاصمة, مع بقاء وتزايد سكان العشوائيات التي نطورها ماديا, بدون تطويرهم بشريا, وهو أمر قد تكون له عواقب اجتماعية/ ثقافية/ سياسية مهمة.. ولهذا, بمشيئة الله, حديث آخر, عن مستقبل القاهرة والبحث العلمي!