لم تأت تحذيرات السفير المصري لدى السلطة الفلسطينية ياسر عثمان من خطورة التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة بخصوص سيناء من فراغ ولكنها تعكس وتعبر عن إدراك حقيقي لجدية هذه التهديدات التي تأتي متزامنة مع الاحتفالات المصرية بالعيد الثامن والثلاثين لانتصارات حرب أكتوبر1973 المجيدة. فقد اعتبر السفير ياسر عثمان أن انتقادات إسرائيل المتكررة للأوضاع الأمنية في سيناء تؤشر لمخطط إسرائيلي يستهدف اختلاق ذرائع للتدخل في شئون مصر، حيث يتعمد كبار المسئولين هناك وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو هو ووزير الدفاع إيهود باراك إعطاء انطباع للعالم بأن مصر بعد الثورة لم تعد قادرة على السيطرة على حدودها مع إسرائيل. بالطبع المسائل أعمق بكثير من التهديد المباشر الوارد على لسان عوزي دايان رئيس جهاز الأمن القومي الإسرائيلي والذي قد يكشف جزءا من خلفيات الترويج الإسرائيلي لتلك المزاعم. فقد ذكر دايان حسب صحيفة معاريف الإسرائيلية- أنه آن الأوان للقيام بعملية عسكرية داخل سيناء. فالتورط الإسرائيلي غير مستبعد في ما يحدث داخل سيناء، بين حين وآخر، من عمليات عنف بعضها استهدف خط الغاز المصري، للأردن بشكل أساسي، وأحيانا خط الغاز الموصل لإسرائيل، كما أن التركيز والتضخيم الدعائي الإسرائيلي لمثل هذه الأعمال والتشديد على عجز السلطات المصرية عن مواجهتها قد يستهدف مرحليا إما فرض ترتيبات أمنية مع مصر تلزم المصريين بأن يقوموا بحماية الحدود الإسرائيلية، أي أن تتحول مصر إلى قوة حماية للأمن الإسرائيلي، وأن تعود إلى الالتزام بسياسة التنسيق الأمني المصري الإسرائيلي السابقة التي ينبغي أن تكون قد سقطت بسقوط نظام حسني مبارك الذي التزم بهذا الدور واعتبروه ذخرا أو كنزا استراتيجيا للأمن الإسرائيلي، وأما الاضطرار للقبول بالبديل، والبديل هو أن تسمح مصر للقوات العسكرية الإسرائيلية بالدخول إلى سيناء، وإقامة منشآت عسكرية وغيرها من متطلبات الدفاع عن أمن إسرائيل من داخل الأراضي المصرية في سيناء. أي أن تعطي مصر ضوءا أخضر للجيش الإسرائيلي بأن يدخل إلى سيناء، ويتولى من داخلها حماية إسرائيل في سابقة ليس لها مثيل في التاريخ، بأن تتولى دولة حماية أمنها ليس من داخل حدودها ولكن من داخل حدود الدول المجاورة. هذان الهدفان ليسا كل شئ أو ليسا ما يقلق أو ما ينبغي أن يقلق مصر جيشا وحكومة وشعبا من المخطط الإسرائيلي الكبير الذي يستهدف سيناء والذي يذكرنا بما سبق أن أكده مناحم بيجن رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق في معرض دفاعه عن قرار الانسحاب من سيناء وتفكيك المستعمرات الإسرائيلية بها وخاصة مستعمرة ياميت الشهيرة. فقد أكد بيجن لمنتقديه أن الانسحاب الإسرائيلي من سيناء انسحاب تكتيكي ومؤقت، بل أنه انسحاب اضطراري. تأكيدات بيجن كانت استراتيجية وليست تكتيكية مثلما كان الانسحاب من سيناء، فحلم العودة إلى سيناء لم يتوقف، بل ربما يكون الأمر تجاوز الحدود الضيقة للأحلام باعتبارها مجرد طموحات أو رغبات، بل أنها تحولت إلى سياسات، وأن ما يشيعه الإسرائيليون هذه الأيام بخصوص سيناء لم يعد محكوما فقط بالدوافع الأمنية، ولكن بدوافع العودة إلى سيناء، ولعل هذا ما يفسر خلفيات الفزع الإسرائيلي من اتجاه مصر إلى تبني سياسة إعادة تعمير سيناء، وما يفسر أيضا أسباب بعض الصمت الإسرائيلي عن طموحات العودة لاحتلال سيناء خلال السنوات الاثنين والثلاثين التي مضت منذ توقيع الرئيس أنور السادات معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. فالواضح أن مصر قد تعمدت للإسرائيليين بإبقاء سيناء خالية من الوجود البشري، كما هي خالية من الوجود العسكري،(باستثناء الوجود البشري المشروط في القطاع ج كما هو محدد في الملحق العسكري لمعاهدة السلام. الآن، وبعد إسقاط نظام حسني مبارك، الذي جعل مصر رهينة للمشروع الصهيوني وتطلعاته الاستيطانية ورهينة للتبعية الأمريكية، وبعد ظهور مجرد نوايا ومؤشرات لإعادة تعمير سيناء دب الفزع في قلوب الإسرائيليين حسب ما أكد تقرير أعده مركز بنيامين فرانكلين- بيجن الإسرائيلي عن خطورة الاستثمارات المصرية في سيناء، فقد اعتبر التقرير أن هذه الاستثمارات تؤسس لمجتمعات حديثة في سيناء وأن هذه المجتمعات ستكون محاور ارتكاز سكاني في سيناء مستقبلا، وأن هناك نوايا مصرية لإحداث تكامل بين الاستثمارات الصناعية والخدمية والتعليمية داخل سيناء، وأن هذا التلاحم عمل على ربط سيناء بالوطن الأم بشكل كبير. تحذير التقرير من خطورة تلك الاستثمارات خطر على مصر وحديثه عن علاقة سيناء بما أسماه الوطن الأم. ويقصد مصر أشد خطرا، لأنه يعتبر سيناء وكأنها قد اقتطعت من مصر، وأن السياسة المصرية الجديدة لإعادة تعمير سيناء يرى أنها ترمي إلى إعادة ربط سيناء بمصر. سبب الخطورة هنا هو ما يتضمنه هذا التقرير من إيماءات تشير إلى هذه السياسة المصرية وكأنها تجاوز من جانب مصر وليست أمورا سيادية مصرية بحتة، أو كأن مصر كان حري بها أن تستشير إسرائيل قبل أن تقوم بذلك من منطلق أن أي تعمير مصري لسيناء يضر بالأمن الإسرائيلي من ناحية، لكنه وكما ينص التقرير يمثل تحديا كبيرا. هل يخطط الإسرائيليون لجعل سيناء وطنا بديلا للشعب الفلسطيني المقيمين في غزة على نحو ما يخططون لجعل الأردن وطنا بديلا للفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية كخطوة أولى لتهويد كل فلسطين وطرد كل الشعب الفلسطيني وفرض فلسطين، كل فلسطين من النهر إلى البحر دولة يهودية خالصة؟ الاحتمال وارد كحل بديل لمشروع حل الدولتين المأزوم حاليا، وفي كل الأحوال تبقى سيناء مطمعا إسرائيليا إما من أجل جعلها جزءا من مشروع الوطن البديل للفلسطينيين لاحتلال وتهويد كل فلسطين، أو من أجل اعتبارها امتدادا للدولة اليهودية في مرحلة قادمة تصل فيها حدود تلك الدولة إلى نهر النيل كما تؤكد الأسطورة الصهيونية، وهي بهذا المعنى تعتبر عمقا استراتيجيا إسرائيليا يبقي الأم الإسرائيلي بل والوجود الإسرائيلي كله ومشروعه الصيهوني بدونه مهددا. نحن أمام خيارين إما أن نبادر وبكل قوة وشجاعة وهمة لتعمير سيناء ضمن مشروع وطني كبير يجعلها عمقا استراتيجيا للأمن المصري ومنطلقا لمشروع النهضة المصرية الكبرى نتواصل من خلالها مع عمقنا العربي عبر فلسطين الحبيبة، وإما أن نتخاذل ونتركها تتحول إلى عمق استراتيجي للأمن الإسرائيلي. نقلا عن جريدة الأهرام