الدساتير والقوانين ليست كتبا مقدسة.. وكل شيء قابل للتعديل والتغيير إلا كلام الله.. أسطر هذه الكلمات قبل التئام مليونية "استرداد الثورة" التي تابعنا على مدى الأسبوع الماضي، تطورات الموقف منها، من سيشارك ومن يرفض ومن يعلق المشاركة إلى حين من الأحزاب والتيارات والائتلافات. المشهد العام يعكس مدى التناقض والتضاد بين مطالب وفكر كل تحالف وائتلاف، ولكن الوازع الوطني والمحافظة على مكاسب الثورة واكتمال أهدافها هو الشعار والعنوان الأساسي للجميع. ومادام هذا هو الهدف الأسمى، ولا خلاف عليه منا ومنهم ومن عامة الشعب المصري. فلماذا لا تجمعنا كلمة سواء لتحقيقه، ويجب ألا تنسي أن ذلك هو الهدف أيضا للحكومة، حتى لو اتهمناها بالتراخي أحيانا وللمجلس العسكري حتى لو لم تحظ كل قراراته برضاء كل القوى السياسية. اختلاف كل هذه القوى من الأحزاب والتيارات بشأن القضايا المطروحة يجعل من الاتفاق العام على كل الإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات أمراً صعب المنال. والتجربة والجداول الزمنية لانتهاء المرحلة الانتقالية هي التي ستعبر بمصر من آفاق أزمة سياسية كبيرة، تهدد اكتمال أهداف الثورة. وذريعة لكل الأصابع الخفية داخلية أو خارجية للعبث بمقدرات البلاد أو الانحراف بمسار الثورة إلى الفوضى إن لم يكن إلى المجهول. وهو ما يريده أعداء مصر إقليميا ودوليا وما يتمناه أصحاب الدعوة الخفية داخليا من فلول النظام السابق وأصحاب المصالح الخاصة التي انتعشت طوال السنوات الماضية. ماذا نريد جميعا، إلغاء الطوارئ نهائيا، انتخابات حرة نزيهة برلمانية ورئاسية، ونظاماً انتخابياً يعبر عن مصر ما بعد الثورة، ولا يتيح الفرصة لرأس المال الحرام أو شخصيات أفسدت الحياة السياسية المصرية من أعضاء الحزب المنحل. لا نريد هذا فقط، بل نريد الالتزام بالمرحلة الانتقالية وجدولها الزمني لنقل السلطة إلى نظام مدني، واكتمال مؤسسات الدولة. كل الشعب المصري يطالب بذلك. وهو الشق الرئيسي الذي شغل البلد خلال الشهور الماضية. وسوف يشغلها طوال الفترة القادمة حتى انتهاء انتخابات الرئاسة ووضع دستور جديد للبلاد. ورغم دعوة البعض إلى عدم الانغماس الكامل للبلد في هذا الجانب السياسي. إلا أنه من الأمر الضروري لاكتمال أساس الدولة. ليبدأ بعد ذلك المشوار الشاق لاكتمال أهداف الثورة الاقتصادية والاجتماعية.
ولكن.. حتى نعبر مأزق التطور السياسي في مصر دون أن يجرنا إلى حالة من الفوضى أو التدهور لوضع البلد. لابد من بناء الثقة الكاملة بين جميع عناصر المجتمع المصري. سواء من كان منهم في السلطة أو كان عضواً في حزب أو ائتلاف. وأن نلفظ النظرة الضيقة لتحقيق أكبر مكسب من الوضع الذي نعيشه لصالح فئة على أخرى أو حزب أو تيار ضد الآخر. لا يمكن أن تمضي الشهور في سجال ومظاهرات وتهديدات وإنذارات وغيرها من مظاهر الابتزاز. إذا جاء قرار على هوى التيار الإسلامي، هدد الليبراليون والعلمانيون بالرفض والمقاطعة وحشد الملايين. وإذا تم إصدار قانون لا يمكن أن يرضي الجميع. ولكن من المهم أن يحوز على ثقة الغالبية. ولا ندور في دوامة الاتهامات والتخوين، ولكن نستفيد من مناخ الحرية الجديد والممارسة الديمقراطية الحقيقية التي أثمرت ظهور جميع التيارات السياسية والدينية من كل الانتماءات الفكرية. وأن يكون أبناء الوطن على مستوى المسئولية الكاملة بمصلحة البلد وحل جميع المشاكل وتقريب وجهات النظر بالحوار. فلا مصلحة لأحد في التحيز لتيار ضد آخر، أو مناصرة هذا ضد ذاك، إلا السعي نحو اكتمال أهداف الثورة ونجاح المرحلة الانتقالية وفترة التحول الديمقراطي، لنصل إلى بر الأمان وحالة الاستقرار الدائم للانطلاق إلى المستقبل.
وإذا كنا نعي أن الوصول إلى الأهداف الكاملة للثورة لا يمكن أن تتحقق دون التطور الاقتصادي والاجتماعي، وهو الهدف الذي فرض عليه التأجيل إلى ما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. فكيف نحافظ على الأقل على عدم تدهور حالتنا أكثر مما كنا عليه في ظل عدم تحقيق حالة الاستقرار وما يسود من مطالب فئوية وصلت إلى حد ابتزاز لحكومة أصبحت مهمتها إطفاء الحريق والانشغال بتدبير احتياجات شعب، ولا يستيقظ مواطن منه لا يجد طعام يومه حتى لو كان بالسلف والدين. كيف نحقق ذلك؟! وفجأة ظهرت موجة من الاضرابات والاعتصامات والمظاهرات التي تهدد البلد بالشلل، وتجسد نذير شؤم في أي لحظة. وهو وضع يؤكد الدور الخفي لمن يقفون وراء ذلك. فإذا انفض اعتصام أو اضراب، نصحو على آخر وإذا انتهت مشكلة فئوية، اشتعلت أخرى في اليوم التالي، فكيف نفكر لبكرة.. لا ينكر أحد حق أصحاب هذه المطالب، ولكن كيف وهل هذه هي الوسيلة بوقف حال الناس. من يعمل على إيقاظ حالة السخط العام. كل مكان في مصر بؤرة توتر.. من العمال بالمصانع، إلى العاملين بالنقل العام، والأطباء والعلماء والباحثين وأساتذة الجامعات، وأصحاب الأفران وموظفي الشركات والمصالح الحكومية، إلى العاملين بالمياه والكهرباء، لم أصدق أن العاملين بالآثار يهددون بإغلاق المتاحف والمناطق الأثرية، مما يشيع حالة من الفوضى لتدمير آثارنا وسرقتها ونهبها.. ماذا يقول العالم عنا، كيف يأتي لنا سائح.. أو مستثمر؟!
لم نجن شيئا من كل هذا، سوى أزمات تلاحق أزمات في توفير الخدمات ونقص الأدوية وارتفاع الأسعار وتراجع الاحتياطي النقدي، واضطرار مصر للاقتراض، وخسائر في كل القطاعات، ألم ينزعج أحد من أهل النخبة السياسية أو منظمي الاضرابات والاعتصامات أننا نسير نحو منزلق خطر؟! ألم ينتبه أحد أننا نندفع نحو تحقيق أهداف من يتربص بمصر ويعمل على إفشال ثورتها، وعودتها إلى الوراء وغرس اليأس في نفوس الناس؟! فمن يشعل خط الغاز رغم توقفه عن العمل؟! لم تعد الحجة التصدير لإسرائيل، من وضع الصواريخ بجوار قناة السويس.. وما هدفه؟! لاشيء غير أن نفيق على كارثة إطلاق صاروخ على سفينة عابرة بالقناة، لتتوقف الملاحة نهائيا ونزحف على بطوننا جوعا وتخلفا. أو إطلاقها على إسرائيل من سيناء ليهدي لها الذريعة لكثير من العواقب. قد تجر مصر إلى حرب. لا يمكن أن نكون نتآمر على أنفسنا.. ولكن من الواضح أن المؤامرة أكبر ولا نريد أن نفيق...؟!
ليتنا نستلهم روح انتصارات أكتوبر هذه الأيام لنعبر الأزمة بسلام. لم يكن نصر 6 أكتوبر مجرد انتصارات عسكرية لجيش مصر العظيم، "والذي سيظل هكذا إلى أبد الآبدين".. في ساحات المعارك والقتال، بقدر ما كان انتصارا للإرادة المصرية. إرادة أبناء قواتنا المسلحة وأمة قررت أن تثأر لكرامتها وتحرر جزءا من أرضها دنسه الاحتلال الإسرائيلي. أمة أفاقت على هزيمة 67. ولكنها كانت خسارة في أرض المعركة، لم تقتل الروح المصرية، ولا يمكن أن تموت أمة قوية الإرادة، فتحمل الشعب وكان أكبر من أحزانه وأسمي من أي مطالب أمام تحرير أرضه واستعادة كبريائه وعزته، وضحى بكل شيء لإعداد جيشه وضحى الناس بالغالي والنفيس، وقبلوا شظف الحياة لتدخر البلد كل مليم لبناء جيشها استعدادا لمعركة قادمة، حتى استطاع جيشنا أن يرفع هامة مصر والعرب بانتصارات أذهلت العالم وأصابت إسرائيل بالهلع ونسى بعض جنودها اسماءهم من هول ما عاشوه حسب شهادة أحد المؤرخين الإسرائيليين! نحمد الله أنه لا مقارنة بين حالة الذل والانكسار التي كنا نعيشها حتى حقق جيشنا أعظم انتصار نزهو به وسط العالم. ويشهد به العدو قبل الصديق. والحالة التي نعيشها اليوم والتي تواكب أيام أكتوبر العزيزة الغالية على النفس.. نعيش أياما من الفخر والحرية، وثورة شعب من أجل الكرامة والعدالة. ولكن ما أحوج الأمة اليوم لإرادة انتصارات أكتوبر للعبور من مرحلة انتقالية تنتابها الصعاب إلى دولة مصرية جديدة قوية وقادرة، تستحق المكانة اللائقة لها بإرادة أبنائها وقوة جيشها وتلاحم الشعب وقواته المسلحة. نقلا عن جريدة أخبار اليوم