يشكل تحرير ليبيا من قبضة الديكتاتورية المطلقة للعقيد القذافي، مؤشراً جديداً يضاف إلى المؤشرات العديدة السابقة التي ترسم صورة علاقات حلف شمال الأطلسي والولاياتالمتحدة مع العرب خاصة، ومع المسلمين بصورة أعم! فالكويت ما كان لها أن تتحرر من اجتياح قوات صدام حسين في عام 1990 لولا تدخل الولاياتالمتحدة زعيمة الحلف الأطلسي. وكانت مشاركة قوات عربية في التحالف الدولي بقيادة واشنطن التجربة العملية الأولى التي تكررت في ليبيا. فجامعة الدول العربية هي التي أطلقت الضوء الأخضر للعمل العربي مع الولاياتالمتحدة لتحرير الكويت عسكريّاً من الاجتياح العراقي. وهي التي أطلقت الضوء الأخضر أيضاً لعمل عربي مماثل مع الأممالمتحدة -ومن ثم مع حلف شمال الأطلسي- لتحرير ليبيا من ديكتاتورية القذافي واستباحته لدماء شعبه. وبين التجربتين، الكويتية والليبية، يُسجل لحلف شمال الأطلسي وللولايات المتحدة تحديداً القيام بمبادرات سياسية- عسكرية تستجيب للتطلعات الإسلامية عامة والعربية خاصة. ومن هذه المبادرات التدخل العسكري- السياسي في البلقان لوقف جرائم الإبادة الجماعية التي تعرض لها المسلمون على يد القوات الصربية. ومنها أيضاً قيادة قوات حلف شمال الأطلسي في قصف صربيا، وحتى عاصمتها بلغراد لحملها على الانسحاب من كوسوفا. وحتى أن شعب هذه الدولة الإسلامية الصغيرة يدين في استقلاله للولايات المتحدة أساساً؛ وهي مشاعر أعرب عنها الكويتيون أيضاً بعد تحررهم من احتلال القوات العراقية. لقد رفع شعب كوسوفا علم الولاياتالمتحدة إلى جانب علمهم الوطني أثناء الاحتفال بإعلان الاستقلال عن صربيا.. وهو ما فعله من قبل الكويتيون أيضاً أثناء الاحتفال بالتحرير. طبعاً ليست الولاياتالمتحدة (ولا حلف شمال الأطلسي) جمعية خيرية للعمل على تحرير الشعوب ورفع المظالم عنها. فللولايات المتحدة مصالح استراتيجية دائمة في النفط وعائداته المالية، وفي الهيمنة السياسية المباشرة وغير المباشرة. وفي هذا الإطار كان الاجتياح الأمريكي للعراق الذي مزق الدولة على خطوط عنصريّة وطائفيّة ومذهبيّة تحت شعار تصدير الديمقراطية. وفي هذا الإطار أيضاً كان احتلال أفغانستان تحت شعار مطاردة حركة "طالبان" المتهمة -عن حق- بإيواء تنظيم "القاعدة" الذي ارتكب جريمة 11 سبتمبر 2001 كما أعلن التنظيم نفسه عن ذلك، إلى جانب سلسلة من الجرائم الأخرى في العديد من الدول العربية والإسلامية والأوروبية. وتوفير ملاذ آمن لقادته وعلى رأسهم بن لادن. وفي هذا الإطار كذلك يقع الدعم الأمريكي المتواصل واللامحدود ماليّاً وسياسيّاً وعسكريّاً لإسرائيل وتغطية جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها ضد الفلسطينيين (الحرب على غزة 2008) وضد اللبنانيين (الحرب على لبنان 2006). والسؤال الذي يفرض نفسه هو كيف تبرر الولاياتالمتحدة زعيمة الحلف الأطلسي، قصف صربيا استجابة للمطالب المشروعة لكوسوفا بالاستقلال وإقامة دولة وطنية، وفي الوقت ذاته، تدافع عن إسرائيل في رفضها إعلان الدولة الفلسطينية؟ وكيف ترفع الولاياتالمتحدة شعار حل الدولتين (إسرائيل وفلسطين) ثم تهدد السلطة الفلسطينية بالويل والثبور وقطع المساعدات عنها، ومقاطعتها، إذا أصرت على اللجوء إلى الأممالمتحدة للحصول على اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية على حدود 1967، كما ينص على ذلك قرارا مجلس الأمن الدولي 242 و338؟ وكيف تدعم الولاياتالمتحدة حق الشعب الليبي في التحرر من دموية سلطة القذافي واستبداديته المطلقة، وتغطي دموية إسرائيل واستبداديتها المطلقة في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ لقد بررت الولاياتالمتحدة -وقوات حلف الأطلسي- قصف بلغراد بأن ذلك كان الوسيلة الوحيدة للضغط على صربيا من أجل الانسحاب من كوسوفا. ولكنها لم تمارس حتى الضغط الكلامي على إسرائيل لحملها، أو لإقناعها، بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية المحتلة منذ عام 1967 حتى اليوم. لقد فرضت الولاياتالمتحدة بالقوة السياسية والعسكرية اتفاق "دايتون" الذي أدى إلى قيام دولة البوسنة الاتحادية الجديدة مما وضع حدّاً للمجازر الجماعية التي كانت ترتكبها القوات الصربية هناك (مجزرة سيبرينشا التي قتل فيها أكثر من ثمانية آلاف مسلم لمجرد أنهم مسلمون)، ولكن الولاياتالمتحدة نفسها مارست حق النقض في مجلس الأمن الدولي لإسقاط مشروع إدانة إسرائيل بسبب ارتكابها جرائم مماثلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويطعن هذا الموقف الثابت في البعد الأخلاقي- الإنساني للمواقف المتحركة للولايات المتحدة في قيادة العمليات العسكرية لتحرير الكويت من احتلال قوات صدام، وفي المشاركة في العمليات العسكرية لإنقاذ ليبيا من ديكتاتورية القذافي.. والآن في الضغط على الرئيس السوري بشار الأسد. وتكرس الطعن في أخلاقية هذه السياسة الأمريكية (واستطراداً في أخلاقية سياسة حلف شمال الأطلسي) الجرائم التي ارتكبتها القوات الأمريكية في العراق أولاً من خلال اختلاق مبررات كاذبة لاحتلاله، مثل الادعاء بأنه يملك أسلحة دمار شامل وأنه يتعاون مع تنظيم "القاعدة"، ثم من خلال ممارسات الاحتلال (فظائع معتقل سجن أبو غريب نموذجاً)، وبعد ذلك من خلال النتائج المأساوية التي أسفر عنها الاحتلال (تفتيت المجتمع العراقي والتضحية بمسيحيي العراق وتقديم العراق لقمة سائغة لإيران). كما يكرس الطعن في أخلاقيتها ما جرى ويجري في أفغانستان وباكستان حيث تؤدي مطاردة "إرهابي" ما، إلى مقتل العشرات من الأبرياء.. وإلى نجاة "الإرهابي المطارَد" في معظم الأحيان. وبعد مرور أحد عشر عاماً على هذه الممارسات يجد الاحتلال الأمريكي نفسه في نقطة الصفر، مما اضطر الولاياتالمتحدة إلى طلب التفاوض مع حركة "طالبان"، كما حدث من قبل في فيتنام. لقد تدخلت الولاياتالمتحدة في السودان من بوابة أخلاقية عريضة. وهي وضع حد "للمجازر"(؟) التي اتهمت القوات السودانية بارتكابها في إقليم دارفور. وحتى أن الرئيس البشير نفسه اتهم بأنه كان وراءها، مما أعطى الضوء الأخضر للمدعي العام الدولي لإصدار مذكرة باعتقاله. ولكن النتيجة العملية لهذا التدخل الإنساني الأخلاقي كانت تقسيم السودان إلى دولتين، وفتح شهية مناطق أخرى منه للانقسام، ثم طوي ملف اتهام الرئيس البشير، وكأن لم يكن! ولعل آخر وأبرز مظهر من المظاهر التي تطعن في أخلاقية السياسة الأمريكية، المقارنة بين الموقف الذي أعلنه أوباما من القضية الفلسطينية أمام جامعة القاهرة والموقف الذي يمارسه اليوم. فالنتائج العملية لذلك تتمثل في استبدال توسع الاستيطان الإسرائيلي في القدس وفي الضفة الغربية المحتلتين، بالشعار الذي رفعه أوباما بوجوب احترام الحقوق الفلسطينية ورفع الظلم عن الإنسان الفلسطيني! أما بالنسبة لحلف شمال الأطلسي فإن التناقض ربما يكون أكثر وضوحاً. ففي عام 1994 عندما انتهت مهمة القائد الأعلى لقوات الحلف في ذلك الوقت الجنرال "كالفن"، ألقى الجنرال خطاباً في الاحتفال التكريمي الذي أقيم له في بروكسل، قال فيه: "لقد ربحنا الحرب الباردة، وها نحن نعود بعد 70 سنة من الصراعات الضالة إلى محور الصراع القائم منذ 1300 سنة. إنه صراع المجابهة الكبيرة مع الإسلام". ثم إن الأمين العام الحالي للحلف "راسموسن"، كان رئيس حكومة الدانمرك أثناء أزمة نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للإسلام. وعندما طلب وفد من سفراء الدول الإسلامية في كوبنهاغن مقابلته للإعراب عن احتجاجهم على نشر الرسوم، رفض مقابلة الوفد، معلناً أن الدانمرك تحترم حرية الرأي، وقد أدى موقفه السلبي هذا إلى ردود الفعل الإسلامية الاحتجاجية الساخطة في معظم دول العالم الإسلامي. ومن هنا، تتناقض الصورة الخارجية للولايات المتحدة (ولحلف الأطلسي) كقوة تحرير لمسلمين (في البلقان) ولعرب (في الكويت وليبيا) من الاستبداد ومن المجازر، مع الصورة الداخلية لنواياها الحقيقية ولمصالحها الاستراتيجية. إن محاولة طمس معالم هذا التناقض، أو تجاهله تؤدي إلى استنتاجات خاطئة، يدفع المسلمون والعرب ثمنها غاليّاً جدّاً. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية