بعد سبعة أشهر من الانتصار الأولي لثورة الفل بتخلي الطاغية المخلوع عن الحكم لمصلحة المجلس الأعلي للقوات المسلحة, وبعد أطول من نصف عام من التمتع بنسيم الحرية الذي جلبته الثورة الشعبية العظيمة, وان قلل من التنعم به أحيانا مكابدة آلام عثرات الفترة الانتقالية تحت حكم المجلس وحكومته, تقف مصر عند مفترق طرق تاريخي بحق, يتعين علي جميع القوي الوطنية أن تتمعن في تبعات اختياراتها بشأنها, متوخية مصلحة مصر وشعبها, في المقام الأول. وسنحاول في هذا المقال بيان المعالم الأساسية لكل من الطرق الرئيسية التي ينفتح عليها هذا المفترق وتبعات كل منها. ليس إلا من طريقين رئيسيين, نسميهما حسب الحكاية الشعبية: سكة السلامة وسكة الندامة. غير أن الطريق الثاني له روافد عديدة. كان طريق السلامة, بعد سقوط الطاغية مباشرة يتمثل في وضع البني القانونية, وتاجها الدستور والقوانين المشتقة منه خاصة تلك المنظمة لمباشرة الحقوق السياسية, قبل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية من خلال أوسع مشاركة شعبية ممكنة, بما يضمن احترام آليات للحقوق المدنية والسياسية لجميع المواطنين علي أرض مصر, سبيلا لنيل غايات الثورة العظيمة في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع علي أرض الكنانة. ثم توظيف هذه البنية في تشكيل مؤسسات الحكم الديمقراطي الصالح التي تعمل علي نيل تلك الغايات بأفضل السبل وأكفئها, عبر آليات الانتخاب الحر والنزيه, حين تتوافر تلك المؤسسات بدأب وتحت رقابة الشعب علي إنجاز العديد من أوجه الإصلاح المجتمعي اللازم لنيل غايات الثورة. وهذا هو السبيل الذي انتهجته ثورة الياسمين في تونس, الأنضج سياسيا, ومن ثم الأوفر حظا في نجاح عملية الانتقال إلي الحكم الديمقراطي الصالح. ولا مناص من أن نكرر هنا أن الدستور هو في الأساس تعاقد بين المواطنين ينظم شئون الاجتماع البشري في البلد, ومن بينها العلاقة بين المواطنين والحكم باعتباره تكليفا من الشعب لبعضه, أفرادا وعلي صورة مؤسسات بالسهر علي المصلحة العامة والخضوع للمراقبة والمساءلة ابان تولي المنصب العام وبعده. ومن ثم, فان الدستور يتعين أن ينظم علي وجه الخصوص, شئونا تتعلق بالمجلس التشريعي, بما في ذلك تكوينه من غرفة واحدة أو غرفتين, وبانتخاب أعضاء المجلس النيابي ورئيس الدولة وباقي المناصب العامة, ومراقبتهم ومساءلتهم, وقد قفزت لجنة المستشار البشري والمجلس العسكري علي هذا الترتيب المنطقي, في تعديلات الدستور وفي المراسيم بقوانين الأحزاب ومباشرة الحقوق السياسية, بما يحقق مزايا غير عادلة لتيار الإسلام السياسي المتشدد, المتمثل أساسا في جماعة الإخوان المسلمين والتيارات السلفية, ولأصحاب المال الكبير, ليس فقط في المجلس التشريعي القادم ولكن في مستقبل البنية القانونية والمؤسسية للحكم في مصر بوجه عام التي سيقوم مجلس الشعب القادم علي صياغتها. وجدير بالذكر أن التيار الإسلامي المتشدد والفصيل العسكري ظلا من أشد الرافضين للمبدأ الأصولي بوضع الدستور قبل الانتخابات. كما زعم كل من الفريقين بتعسف واضح, ان موافقة الغالبية الشعبية في الاستفتاء الشعبي علي التعديلات الدستورية التي اقترحتها لجنة البشري المجلس, كانت في الواقع تأييدا لشرعية المجلس العسكري أو لتطبيق الشريعة الإسلامية وليس أبعد عن الحقيقة! وجلي أن تفضيل المجلس الأعلي للقوات المسلحة وتحالف التيارات الإسلامية المتشددة الذي يصمم علي انتخاب مجلسي الشعب والشوري أولا وقيامهما تحت اشراف المجلس الأعلي للقوات المسلحة, الحاكم خلال الفترة الانتقالية, بوضع الدستور الجديد قد فرض علي شعب مصر تحويلة طريق قد تفضي, باتخاذ المجلس لمزيد من القرارات التسلطية, بشعب مصر إلي سكة الندامة, ان الحرص علي ازدهار مستقبل مصر, متمثلا في نيل غايات الثورة يقتضي الترفع عن المكابرة علي اتباع هذا الطريق إلي نهايته المحتومة. وحتي لا نبكي علي اللبن المسكوب نشير إلي الاتفاق علي مباديء دستورية يتفق عليها, ويقبلها الشعب, كي تهدي وضع الدستور كان سبيلا وسطا يضمن الرجوع عن هذه التحويلة الشر إلي بدايات طريق السلامة, ومثل فكرة سديدة كحل سياسي وسط ولكن الفصائل الإسلامية المتشددة والمجلس العسكري رفضاها بعناد مكابر. والا ينبغي أن يكون في هذا الموقف المتغطرس نذير جدير بالحذر من مغبة هذا الطريق؟ وفوق ذلك يمهد لدخول مصر سكة الندامة عدد من العوامل الأخري ترجع كلها لاخطاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة وحكومته, في حكم المرحلة الانتقالية ووضع القوانين المنظمة لها من دون استشارة شعبية واسعة, يأتي علي رأس هذه الأخطاء تقاعس السلطة الانتقالية عن تطهير الحلبة السياسية من بقايا نظام الحكم التسلطي الساقط, حتي صارت تعيد تنظيم نفسها في كيانات حزبية جديدة بالاستفادة من الأسلوب المعوج لتنظيم انشاء الأحزاب الذي فرضه المجلس. ويندرج في الإطار نفسه تمكين السلطة الانتقالية للتيارات الإسلامية المتشددة من تصدر الساحة السياسية والموافقة علي تنظيم نفسها في أحزاب علي الرغم من النص في القوانين المعنية علي عدم جواز قيام الأحزاب علي أساس ديني. وينطبق التيسير ذاته علي أصحاب المال الكبير, وبالمناسبة لم تضع قوانين المجلس أي حد علي الانفاق الانتخابي. ولم تتحرج السلطة الانتقالية عن تشكيل أحزاب تقف وراءها من خلف ستار رقيق. بينما عاقبت قوانين المجلس وتصرفاته القمعية في الفعل القوي الوطنية الشابة التي لعبت الدور الأهم في اندلاع ثورة الفل. ولا يحتاج الأمر كثير تفكير لتصور قوام مجلسي الشعب والشوري الذي ينتظر أن ينتج عن هذه الظروف الابتدائية المختلة, اللذين سيعهد إليهما وضع الدستور الجديد تحت إشراف المجلس الأعلي للقوات المسلحة. ويتعين أن يكون واضحا أيضا وجه العوار المنطقي والأصولي الكامن في أن تشرف مؤسسة ما علي صوغ القانون الأسمي, الذي ينظم بين ما ينظم, هذه المؤسسة ومساءلة أعضائها سواء كانت تلك المؤسسة هي المجلس التشريعي المنتخب لدورة واحدة أو القوات المسلحة درع الشعب وحامي الديار. ولا يقل خطرا أن تتغلغل في الدستور الجديد توجهات الإسلام المتشدد بالانتقاص من الحقوق المدنية والسياسية للنساء وغير المسلمين افتئاتا علي بعض المباديء الحقوقية المستقرة في منظومة حقوق الإنسان من عدم جواز التمييز بين البشر, خاصة في الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين. بينما تنصب المرجعية الإسلامية للدولة في عرف التيار الإسلامي المتشدد, في المقام الأول, علي تطبيق الشريعة بالمفهوم الشكلي المتمثل في تطبيق الحدود ولو من دون توافر شروطها, وفي حماية العفة الظاهرية (التحجب والحشمة في اللباس ومنع الخمور ومنع القبلات والمشاهد الحميمة في الأعمال الفنية وحجب التماثيل) بدلا من إسلام العقل والعدل والمساواة والمحبة والتراحم. ولا يقل خطورة أيضا أن تشوب الدستور الجديد توجهات نظام الحكم المتسلط والفاسد الذي أسقطته الثورة في التمسك بالتنظيم الاقتصادي المحابي للرأسمالية الاحتكارية المنفلتة, والتي انتجت شرور البطالة والفقر والقهر والاستقطاب الاجتماعي الحاد, تحت النظام الساقط, ولعل أشد الأخطار المحتملة هو اضفاء قدسية علي القوات المسلحة تعفيها من المساءلة من قبل الشعب, مالكها الحقيقي, وتقنن لضيق التقاليد العسكرية بالديمقراطية وتؤسس لارستقراطية عسكرية, علي قمتها رئيس عسكري ولو بسترة مدنية, وتهدر أسس الكفاءة سبيلا لتبوء المناصب المتميزة ورقي المجتمع, ما ينتهي بتحويل جميع المصريين غير العسكريين إلي مواطنين من الدرجة الثانية. ان هذا الكابوس الدستوري وما ينتظر أن يسفر عنه من مؤسسات وممارسات تبتعد عن جوهر الإصلاح السياسي والمجتمعي اللازم لقيام نهضة إنسانية في مصر, تشع منها إلي باقي الوطن العربي, هو المدخل الأوسع إلي سكة الندامة. فمثل هذا التنظيم المجتمعي يجهض ثورة الفل, بل يعاقب شعب مصر كله بفرض تنظيم مجتمعي يحمل أسوأ صفات الحكم التسلطي الذي قامت الثورة لإسقاطه ويضيف إليه أوزارا أخري كان نظام الفساد والاستبداد لا يحملها صراحة. وليس غريبا في هذه الحالة أن يكون مصير شعب مصر أسوأ حتي مما كان يمكن أن ينتهي إليه حال استمرار نظام الطاغية المخلوع. وسيحكم التاريخ علي كل من له شأن في تقرير مصير البلد الطيب وأهله بمدي مساهمته في سلوك سكة السلامة والابتعاد عن سكة الندامة. نقلا عن صحيفة الاهرام