ثارت معارك بين أبناء مصر بعد خلع الرئيس مبارك، ظاهرها أنها خلاف حول سلم الأولويات للمرحلة الانتقالية، أو حول ترتيبات ما بعد المرحلة الانتقالية، ولكن الحقيقة أنها خلافات حول هوية مصر. فعناوين مثل (الدستور أولا)، (الانتخابات أولا)، (المبادئ الحاكمة)، بل حتى تفاصيل قانون الانتخابات وهل تجرى الانتخابات بالقائمة الفردية.. الخ، كل هذه الخلافات في حقيقتها أعراض للداء الأكبر الذي يتعلق بهوية الدولة والأمة، هل مصر دولة إسلامية؟ أم علمانية؟ هناك تعريفات متعددة للدولة الإسلامية، فمن الإسلاميين من لا يرى في الدولة الإسلامية سوى سلطة مطلقة لهيئة من علماء الشريعة، تستطيع هذه السلطة أن تعدل ما يختاره أي برلمان منتخب، وتستطيع أن تقف ضد أي شريعة جماهيرية باسم الشريعة، أي باسم الله، والدولة في نظر هؤلاء كيان منظم وظيفته أن يطبق الحدود الجنائية من جلد وقطع، وتلك الدولة تنتج مجتمعا متشددا في ظواهر الأمور كاللحية، والنقاب، وما إلى ذلك، دون أن تلج إلى صحيح المقاصد الشرعية التي يريدها المشرع سبحانه وتعالى. هذا التصور للدولة الإسلامية موجود، ولكنه تصور مرجوح، وعليه عشرات الردود من الإسلاميين أنفسهم، والتيار الأكبر منهم لا ينظر للدولة بهذا المنطق السطحي المتشدد، بل يرى الشعوب مرجعا أعلى لا ينبغي تجاوزه، وهذا الفريق من الإسلاميين يعفي نفسه من أسئلة ساذجة تتعلق بافتراضات مستحيلة، مثل سؤال: ماذا لو اتفق الناس على إباحة الزنى مثلا؟ فهم يعلمون علم اليقين أن الجماهير لن تتصادم مع المبادئ الكبرى للإسلام، وأن غالبية المصريين- حتى من غير المسلمين- أهواؤهم مع فضائل الدين. وبالتالي تكون الدولة الإسلامية في نظر هؤلاء هي تلك الدولة التي ترى في مقاصد الشريعة العظمى مرجعية للمجتمع بكل طوائفه، وذلك بالاتفاق لا بالإجبار، طبقا لمبدأ (لا إكراه في الدين)، وطبقا لمفهوم الرضا في العقود، والذي تقره الشريعة في سائر المعاملات، ومن ضمنها التعاقدات السياسية التي يتعاقد فيها المجتمع مع ذاته، بل إن هذه العقود أولى بتطبيق مبدأ التراضي من العقود التجارية الفردية. هذا الفريق من الإسلاميين يحترم وجود تيارات أخرى في مصر، منها بعض التيارات العلمانية، ولا يريد أن يمنعهم من العمل، بل هو مستعد لمد اليد لهم للتعاون فيما يمكن الاتفاق عليه. هناك طرف آخر يريد أن يرى مصر مجتمعا علمانيا متطرفا في علمانيته، فهو لا يرى أن الفصل بين الدين والدولة كاف، ولا يرى أن منع الممارسة السياسية باسم الدين طبقا لما جاء في قانون الأحزاب الجديد كاف، بل يريد هذا الفريق أن يرى مصر منفصلة عن دينها تماما، فهو تيار ذو حساسية شديدة تجاه أي مظهر من مظاهر التدين بدءا من لحية أو حجاب على شاشة التلفاز، وصولا إلى سجدة لاعب أحرز هدفا، مرورا بنظريات إسلامية في السياسة أو في الاجتماع أو في الاقتصاد. هناك وجهة نظر أخرى في نفس التيار العلماني تحترم الهوية العربية الإسلامية لمصر ولا ترى في إقصاء الدين هدفا في حد ذاته، بل يعتبر الإسلام مخزنا للطاقات التي من الممكن أن تضاعف قدرة الأمة على الابداع والعمل، ويرى في الإسلاميين تيارا سياسيا من الممكن أن يكون منافسا اليوم، ومن الممكن أن يكون حليفا غدا، ويرى الخلاف معهم خلافا تمكن الحياة معه، ولا يرى في وصولهم للسلطة نهاية الدنيا. مصر لن تكون دولة إسلامية (بالتعريف المتشدد في بداية المقال) ولن تكون دولة علمانية (بالتعريف المتطرف الذي ذكرته منذ أسطر). ستظل مصر كما هي، فيها أكبر علماء الدين وأعظمهم، وفيها أكبر ممثلي ومخرجي السينما العربية، ستظل نرى فيها المساجد، والمواخير، وسنرى فيها أقوى التيارات الإسلامية، وستظل منبع الأفكار التنويرية التي قد تتصادم مع الدين في بعض الأحيان. إن محاولة صبغ مصر بلون واحد تعتبر سذاجة وسباحة ضد التاريخ، ومحاولة اخراج مصر من هويتها العربية الإسلامية كمحاولة تبخير البحر، ومحاولة إلغاء التعدد الثقافي المتراكم في مصر على مدى عشرات القرون كمحاولة تعبئة البحر في زجاجات. سيلتحم الفريقان خلال الفترة المقبلة (أعني الإسلاميين والعلمانيين) وسيساعد على ذلك وجود كثير من المتطرفين والحمقى في التيارين، وعدم وجود كبراء للفريقين يملكون من الحكمة ما يكبح جماح الصغار، وستكون نتيجة هذا الالتحام درسا كبيرا يتعلمه الجميع، وهو أن مصر عربية إسلامية، ولكنها ليست ملكا للإسلاميين، وأن مصر بطبيعتها متسامحة متعددة الرؤى والأهواء، ولكنها لا تسلم نفسها لأي تيار علماني دخيل. يظن البعض أن الصراع بين التيارين شر كله، وأنا أرى فيه تدافعا طبيعيا، سيؤدي إلى خير كبير، ولن نصل لهذا الخير إلا بعد أن ندرك الشر المستطير الذي يغلف خلافاتنا. والله الموفق نقلا عن جريدة الأهرام