يصادف غداً الثلاثاء 2 أغسطس 2011 الذكرى الحادية والعشرين لتلك المحنة المؤلمة للكويتيين وجميع العرب، وهي ذكرى غزو واحتلال قوات نظام صدام حسين لدولة الكويت الجارة الصغيرة، التي لم تكتف قواته بأن تحتلها فقط وتعيث فيها فساداً على مدى سبعة أشهر دموية عجاف، بل لقد شطب صدام نفسه أيضاً الكويت من الوجود وألحقها كمحافظة حملت الرقم 19. ولذا فقد كان ما حدث كارثيّاً بكل معنى الكلمة. إذ لم يحدث في تاريخنا العربي الحديث أن تحتل دولة عربية وتشطب وتلغي جارتها العربية! نعم حدثت هناك وصاية من دولة على أخرى، وحتى احتلال ناعم، ولكن لا يوجد شيء شبيه بما فعله العراق بالكويت، بإلغائها وجوداً وحدوداً وكياناً وشعباً. كما أن فشل النظام العربي أيضاً كان مدويّاً. وهو النظام نفسه الذي اعتمدت عليه الكويت بعد تهديدات الزعيم العراقي عبدالكريم قاسم بعد أسبوع من اسى تقلالها عام 1961، الذي استبدل النظام الأمني البريطاني وإصرار الكويت على البقاء على الحياد إبان الحرب الباردة، وكذلك رفضها للقواعد الأجنبية سواء كانت غربية أم شرقية، أميركية أم روسية. وقد زاد ذلك من رصيد وقدرة الكويت لتكون طرفاً مؤثراً على مدى ثلاثة عقود حيث ظلت تلعب دوراً فاعلاً في النظام العربي، وتساهم عن طريق قوتها الناعمة بتقديم الدعم التنموي للدول العربية من خلال أول صندوق للتنمية في دولة نامية أعطت من خلاله الكويت قروضاً تنموية ميسرة للدول العربية وغير العربية، سواء أكانت دولاً كبيرة أم صغيرة، بعيدة أم قريبة، وحتى للعراق نفسه، وقد وصلت القروض الكويتية الجميع، بما في ذلك الصين، مما رفع من أسهم النموذج الكويتي الذي أضاف لهذا البعد الاستراتيجي والتنموي أيضاً دبلوماسية الوساطة الناجحة في صراعات عربية- عربية، وحتى بين دول غير عربية كالهند وباكستان على خلفية صراعهما حول كشمير. وقد عززت الكويت ذلك كله بنظام ديمقراطي مميز، وأول دستور مكتوب وبرلمان منتخب وفعال في المنطقة يسقط حكومات. لقد شكل احتلال صدام للكويت، وعجز النظام العربي عن ردعه أولاً أو إجباره على الانسحاب من الكويت، فشلاً عربيّاً ذريعاً سواء للجامعة العربية أو لمنظومة الدفاع العربي المشترك. ولم ينجح سوى تحالف دولي بمشاركة خليجية وعربية وبقيادة أميركية في طرد قوات صدام من الكويت، ما غير من تضاريس وتركيبة المنطقة، وكرس تدويل الشأن العربي والأمن الخليجي. وقسّم العرب إلى عرب "المع" و"الضد"، ولاحقاً محور الاعتدال والتشدد الذي يُفضل أن يُعرّف بمحور الممانعة، ومن ثم لتتم عسكرة المنطقة. وقد طاردت لعنة الكويت صدام ونظامه وشكلت العد التنازلي لزوالهما. واختل النظام الأمني الإقليمي بسقوط العراق وحصاره ومن ثم إسقاط نظام صدام نفسه الذي لا يملؤه اليو سوى الوجود والبقاء الدولي وخاصة الأميركي، وبقينا نسدد الفواتير والاستحقاقات حتى يومنا هذا. لقد كتبنا في هذه الصفحات، وفي دراسات علمية خلال الأعوام الماضية، العديد من المقالات حول العلاقة الملتبسة والمعقدة بين الكويت والعراق. وما سطرناه يحمل الكثير من القلق والهواجس التي ترفض أن تموت وتُدفن بين البلدين. كما كتبت عن أشباح الماضي التي تلوح في الأفق، وعن القضايا العالقة والاستحقاقات المعطلة التي يتلكأ العراق عن تنفيذها تطبيقاً لقرارات مجلس الأمن كنتيجة للعدوان والاحتلال العراقي لدولة الكويت، وإلا بقي تحت الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. وفي المجمل فقد بقيت العلاقة بين الكويت والعراق فاترة وباردة على رغم تحسن العلاقات وإعادة فتح السفارات وإرسال السفراء، وتبادل زيارات رسمية لكبار المسؤولين في البلدين، وزيارات لوزراء، ولجان مشتركة ووفود إعلامية وأكاديمية. ولكن العلاقة بين الكويت والعراق ظلت تمر بمد وجزر وتعايش ملتهب تحركها مواقف وتحذيرات وتعليقات رسمية وبرلمانية وأكاديمية تنبش الماضي، وتعيد أشباحه، مثل المطالبات بإعادة النظر في الحدود والتعويضات والديون. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن نسبة لا يُستهان بها من العراقيين لا تزال مقتنعة بنظرية الفرع الكويت والأصل العراق. وأن الكويت جزء "سليب" من العراق ولابد من استعادته! لتنفخ هذه المواقف، في كل مرة، النار تحت الرماد! أما الجولة الأخيرة من التصعيد العراقي ضد الكويت فكانت لال استهداف للمنطقة الخضراء بسقوط قذائف "كاتيوشا" قرب السفارة الكويتية مما استوجب إخلاء طاقم السفارة بعد أن ادعى "جيش المهدي" مسؤوليته عن القصف. وتبعت ذلك تحذيرات من كتائب "حزب الله" العراقي باستهداف الشركات التي تبني ميناء مبارك الكبير، المشروع الاستراتيجي الكويتي المهم الذي سيربط بمراحله الثلاث آسيا والخليج ببلاد الشام وأوروبا. وقد سبقت ذلك مظاهرات في الجنوب العراقي، ومطالبات من مسؤولين عراقيين آخرهم الحكومة العراقية نفسها، للكويت بوقف بناء الميناء مع أنه يقام على أرض كويتية هي جزيرة بوبيان، أكبر جزيرة في دول مجلس التعاون الخليجي. وقد أكدت الكويت مراراً وتكراراً أن الميناء لا يتعدى على المياه الإقليمية العراقية، ولا يؤثر على القناة المائية التي تربط خور عبدالله بميناء أم قصر العراقي. ومع ذلك يُصر الطرف العراقي على الاحتجاج، في مزايدة وتسييس واضحين للمسألة من طرف الحكومة العراقية وكياناتها المختلفة، وبأجنداتها المتعددة التي عادة ما تحرك إقليميّاً. واليوم أضيف إلى ذلك أيضاً لاعبون من غير النظام السياسي العراقي الرسمي ضمنهم ميليشيات ك"جيش المهدي" و"كتائب الحق" و كتائب حزب الله" لتحذر كل هذه المنظمات وتهدد الكويت! وجاء الرد الكويتي الرسمي على الطلب العراقي الرسمي الداعي لوقف البناء حيث رفضت الكويت تسييس الموضوع الذي تحله اللجان الفنية المشتركة، حتى لا يقتات عليه بعض النواب العراقيين وكتلهم تنفيذاً لأجنداتهم، ليرد عليهم أيضاً نواب كويتيون يثأرون ويردون بقوة على تهجم زملائهم العراقيين. وقد كنت في مناظرة مع أحدهم مؤخراً وصدمت بمطالبه المرفوضة والمستهجنة بإعادة ترسيم الحدود، بل إنه صدمنا جميعاً على الهواء مباشرة مدعيّاً زوراً أن جزيرة بوبيان عراقية! وهكذا، للأسف نعلَق في الماضي ونجتر آلامه ونفشل بسبب حسابات وأجندات ضيقة ليس من ضمنها التطلع للمستقبل، هذا بدلاً من تحويل جزيرة بوبيان الاستراتيجية وميناء مبارك الكبير إلى فرصة للتكامل والشراكة والتعاون والتعايش مع العراق وإيران، مع أن المشروع يوفر على العراق عدة مليارات سيخسرها لبناء ميناء "الفاو" الكبير! إن كل هذا مؤلم ومحبط، فبعد واحد وعشرين عاماً من كارثة الاحتلال العراقي للكويت نبقى ندور في متاهات الماضي ونسمم الحاضر ونخسر المستقبل! نقلا عن صحيفة الاتحاد الاماراتية