الإصرار والترصد علي أن تكون البلد في حالة دائمة من الغليان والفوران والفوضي وأن يقتصر دور السلطات ويختزل في دور سيارة المطافيء وعربة الإسعاف.. من وراءه؟ من يغذيه ويتفنن في تهيئة الأسباب له ويقتنص الفرص لحشد كل العناصر لتنفيذه علي أكمل وجه؟ لابد وأن جهات كثيرة ترصد وتخطط وتدبر وتنفذ.. ولابد أن هناك جهات أعلي تمسك بالريموت وتضغط وتحدد الاتجاهات وتوجهات البوصلة.. ولابد أن هناك أجندات زمنية موضوعة. وخارطة طريق شريرة وخبيثة مرسومة. ولابد وأن هناك ملفات موضوعة تحت الطلب لاتفتح بعفوية وعشوائية وإنما في وقت معلوم ومناخ مرسوم وأرض ملغمة ممهدة لتكون مسرحا لأحداث مدسوسة ومدبرة. ماهي الأيدي الخفية والعقول الجهنمية التي تفعل ذلك؟ إجابتي : فتش عن المستفيد. ونأخذ علي سبيل المثال موقعة الجمل الثانية التي وقعت أمس الأول بميدان التحرير وشارع الشيخ ريحان أمام وزارة الداخلية. حيث وقعت اشتباكات دامية بين المتظاهرين وقوات الشرطة. السؤال لماذا؟ الإجابة في بطن الفاعل. أو بمعني أدق في بطن الممسك بريموت كنترول الفاعل.. الممسكون بالريموت والضاغطون علي أزراره حواة وجرابهم عامر دائما بالثعابين والحيات. الثعابين هذه المرة لاتحصي ولاتعد وهم فلول المجالس المحلية المنحلة بعد أن أغلق القضاء الإداري شقوقها خصوصا وأن 99% من اعضائها من الحزب الوطني المنحل أصلا. من هنا تلاقت المصالح بين السحرة وبين فلول المجالس المحلية.. الطرفان من مصلحتهما أن تظل البلد طوال الوقت فوق بركان.. من هنا كان لابد أن يعزف السحرة علي شقوق المزمار حتي تجيئهم ثعابين الفلول تسعي ليخططوا جميعا كيف وأين تكون اللدغة. ووجدوا ضالتهم في ملف الشهيد.. فهو موضوع مثير ويجد في نفوس الناس أوتارا متعاطفة لو عزف عليها المتاجرون والمدعون لن تكون الاجابة إلا وفاقا علي طول الخط. فالشهداء الذين روت دماؤهم الزكية أرض التحرير لتنبت منها أشجار الكرامة التي طالت عنان السماء لن يجدوا من الشعب إلا احتراما واكبارا. لذلك كان اختيار الظرف والأحداث أمرا بالغ الأهمية.. والظرف هو حفل أقامته جمعية الوعد الأمين الخيرية بعين شمس في مسرح البالون لتكريم عشرة من أسر الشهداء.. وبينما كانت الأحداث تسير في جو يليق بالمناسبة وجلالها. قرر البعض أن يعكروا صفو الحضور ومزاج البلد كلها باقتحام المكان وإلقاء الحجارة وتحطيم الزجاج بالشوم ويكون الخيار بين شيئين: إما أن يتم تكريم أبنائهم ويحصلون علي هدايا مثل المكرمين وإما أن يقلبوا الليلة بؤسا. واختاروا الثانية. إذ ليس معهم ما يثبت أنهم يمتون لأسر الشهداء بأي صلة. في الوقت نفسه فإن الجمعية التي تقوم بهذا التكريم ليس من اختصاصها تكريم كل أسر الشهداء في ارجاء مصر. وإنما تقوم بهذا لأبناء المنطقة. وراحوا ينفذون السيناريو وهو ضرورة اثارة الشغب وتخريب المكان وسرقة بعض الأجهزة الكهربائية والآلات الموسيقية.. والطبيعي أن يتصدي الحاضرون لهم ويلقوا القبض علي بعضهم وان يتم الاتصال بنقطة الشرطة الملاصقة للمسرح لتجيء وتتعامل. بالفعل تم القبض علي 7 من مثيري الشغب وتسليمهم للشرطة التي حررت محاضر لهم تمهيدا لعرضهم علي النيابة.. وهذا هو المطلوب إثباته وتنفيذه لنجاح الخطة وهي اندلاع المظاهرات وإثارة سخط وغضب المتظاهرين. فأسر الشهداء بدلا من تكريمهم واعطائهم ألف باء حق ووفاء تضربهم الشرطة وتحبسهم. الأرض مهيأة. والفرصة مواتية. والكيروسين مسكوب بمهارة وحنكة في القماشة والنسيج ولم يتبق إلا إشعال "عود الكبريت".. وقد كان.. فرق أخري جاهزة ومعدة حسب دورها في الخطة تذهب إلي ماسبيرو. فهناك المعتصمون المحتقنون ولن يحتاجوا جهدا للإثارة. إلا أن ينادي عليهم أحد بالصوت الحياني "الحقوا يا جماعة".. الشرطة تضرب أسر الشهداء الأبرياء وتقبض عليهم. فجأة يتحول الجميع إلي قطط مشتعلة تجري في حقول القمح تحرق في كل الاتجاهات حتي تستقر في ميدان التحرير وفي شارع الشيخ ريحان أمام مبني وزارة الداخلية مطالبين بالإفراج عن المقبوض عليهم وإلقاء الحجارة علي المحلات والسيارات بل ومحاولة اقتحام وزارة الداخلية علي اعتبار انها - طبقا لمقادير صناعة الفتنة وطبختها - "أس الفساد" ومصدر البلاء التي تضرب المتظاهرين وتنكل بأسر الشهداء. وهنا يكون الحابل قد اختلط بالنابل واختلطت الأمور ببعضها لتقع البلد كلها في "حيص بيص". الذين ذهبوا إلي مسرح البالون هل هم بالفعل يمثلون أسر الشهداء أم لا؟ الإجابة: الله يعلم. إذ لا يملك أحد أو تملك جهة رسمية أو غير رسمية معرفة الشهيد الحقيقي الذي ننحني لروحه الطاهرة ونقبل أيادي أسرته التي أنجبته. وفي الوقت نفسه القطع والجزم بأن أسراً أخري تتاجر بالشهداء وتقحم نفسها في زمرتهم من أجل الاستفادة والابتزاز. ولكن بالمنطق والعقل والإحساس يجوز أن نعتبر تلك أدوات لكشف الكذب والإدعاء. إذ أنه من غير المعقول أن تأتي الأم التي احتسبت ابنها عند المولي شهيداً لتقتحم مسرح البالون وتخير الحاضرين بين أن يعطوها ولو كنوز الدنيا أو تستل السيف من غمده والسنجة من ملابسها وزجاجة المولوتوف من حقيبتها. هذه واحدة من الأشياء الكثيرة المختلطة.. والثانية هي شق قلب المتظاهرين لكي نعرف ونميز فيما بينهم.. من هو المتظاهر الوطني الذي هب بحسن نية لنصرة مظلوم أو للدفاع عن حق مهضوم. ومن هو علي الوجه الآخر الذي تظاهر بالأجر تنفيذاً لخطة أو تمهيداً لمخطط يستهدف انحراف الثورة عن أهدافها وجني الأشواك بدلاً من قطف الثمار. وأولي الخطوات لذلك هي "جرجرة" البلد إلي فتنة.. أي فتنة.. تكون مرة طائفية بين عنصري الأمة من المسلمين والأقباط.. وأخري بين الشعب والجيش.. وأخري بين الشعب والشرطة. المهم أن تبقي الفتنة موجودة. وأن يظل السيناريو محكماً وهو أن تظل عجلة مصر محلك سر. وحبذا لو دارت إلي الخلف. من مظاهر الخلط التي أوقعوا فيها الكثيرين هو التمييز بين الثوار الحقيقيين الذين قاموا بالثورة ويصرون علي أن يصلوا بمصر إلي محطة الهدف. وبين الآخرين الذين يتدثرون بعباءة الثورة ويصرون علي أن يصلوا بمصر إلي سكة "اللي يروح ما يرجعش". والخلط أيضا واقع في تشابك الأحداث بعضها ببعض. والتباس الأمور فيما بينها فتتوه المسافات بين مظاهرات الفوضي وقطع الطرق وحرق فلنكات القطار وبين المظاهرات التي تطالب بالحريات والديمقراطية والحقوق الضائعة والمسلوبة.. أو تختلط الأوراق وتسحر العيون فلا نميز بين الذين يمسكون الشوم وزجاجات المولوتوف لنعرف أصلهم وفصلهم.. المتظاهرون يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم رجال شرطة يرتدون ملابس بلطجية. والمسئولون الأمنيون يصرحون بأن ذلك مستحيل. والتعليمات لهم بضبط النفس إلي أبعد الحدود صارمة ومطبقة.. والمواطنون في سخط وغضب لا يهمنا هذا ولا ذاك. الأهم أن نترك البلد يتنفس.. حرام وألف حرام كل الأطراف مدانة.. فإذا كان هؤلاء الذين يتفننون في "وقف حال البلد" فلول وطني أو فلول مجالس محلية أو من دراويش الرئيس فلماذا وطالما نعرفهم لا نتعامل معهم بحجم الجرم ونضرب علي أياديهم بحزم ونقول لهم كفوا وارفعوا أياديكم عن مصر وإذا كانوا علي الوجه الآخر من أسر الشهداء أو أصحاب الحقوق. مهما كانت. فلماذا لا نضرب علي أيادي المسئولين المتباطئين أو المتعنتين ونقول لهم شلت أياديكم. أنتم فلول الروتين وأساتذة تعذيب البشر. كفوا وارفعوا أياديكم.. اللي يحب مصر ما يعطلش عجلة مصر. نقلا عن جريدة الجمهورية