كادت أنفاسي لا تخرج من صدري وهكذا من حولي من فرط الحرص الشديد المفروض بالتزام حاد علي الزائرين الحاضرين للجلسات في مجلس العموم البريطاني. كان ذلك في فبراير2991 حين حضرت إحدي جلسات ذلك المجلس في شرفة عالية أعلي القاعة والجميع ملتزم بهدوء بالغ وحولنا مجموعة من المتخصصين يمسكون بآلات عتيقة يكتبون وقائع الجلسة بطريقة الاختزال ويرسلونها إلي المطبعة لطباعتها علي الفور. بينما كانت قاعة المجلس تشهد مواجهة ساخنة بين توني بلير رئيس الوزراء البريطاني آنذاك وبعض وزرائه وأعضاء المجلس من حزبه, هذا في جانب, وأمامهم علي الجانب الآخر المعارضة بزعيمها وحكومة الظل. كان بلير يتحدث والآخرون يستمعون, ثم عندما ينتهي يهيج صوتهم بكلمة واحدة, ثم يبدأ أحدهم في الرد والتعليق في تقاليد برلمانية راسخة. ولكل عضو من أعضاء مجلس العموم البريطاني مكتب يلتقي فيه بأبناء دائرته في ساعة محددة وأيام معينة. وفي العاصمة الامريكيةواشنطن حيث مجلسي الشيوخ والنواب, يوجد لكل عضو مكتب ومواعيد لمقابلة أبناء الولاية كما يقال هناك ومناقشتهم, كما أن لكل نائب مجموعة عمل من الشبان المتخصصين الذين يقومون بإعداد الدراسات والتحليلات وأوراق العمل وما سوف يتحدث عنه النائب في الجلسات. وفي فنلندا كان مجلس الشعب هناك في زيارة قمت بها عام4991 يطبق نظام الكتروني في عمليات التصويت, حيث تظهر علي شاشات ضخمة الكترونية نتائج التصويت داخل المجلس بكل شفافية أمام الجميع. والمعني هنا ان هناك ثلاث ملاحظات أساسية في تنظيم العمل البرلماني. أولاها احترام المكان فلا ضجيج ولا صخب ولا فتونة وجري وراء الوزراء للتوقيع علي الأوراق وقضاء المصالح الشخصية وأحيانا العامة, وثانيتها أن هناك من يساعد النواب علي حسن أداء وظائفهم ودورهم في التشريع والرقابة وذلك من المحترفين والباحثين, فضلا عن توافر مكاتب للقاء أبناء الدائرة بشكل منظم ومحترم وثالثة الملاحظات هي استخدام تكنولوجيا المعلومات في عمليات التصويت بكل وضوح وشفافية أمام الجميع في لحظة واحدة يبدأ بعدها مناقشة البند التالي في أجندة الجلسة. تلك هي مقدمة ضرورية بعدما انتهت أو كادت انتخابات وتشكيل مجلس الشعب الجديد ومن بينها بلا شك رموز جديرة بالاحترام. ومن هنا لا أظن أنه في تشكيله الجديد سوف يهدأ لحظة فقد انتهت الانتخابات التشريعية لتبدأ مرحلة جديدة من الحياة السياسية في مصر. أمام هذا المجلس الكثير من الملفات الساخنة التي ينبغي أن يناقشها بجدية, وأمامه أيضا الكثير من التشريعات التي يجب عليه أن يقرها علي نحو يحقق الصالح العام والاستقرار بشكل عام وأمامه أيضا ممارسة دوره الرقابي علي الاداء الحكومي بموضوعية وحياد وإيجابية. مسئولية المجلس الجديد شديدة وتحتاج إلي نواب من الطراز الأول هؤلاء هم من اختارهم الناخبون قبل أيام. مسئولية الأعضاء الذين نالوا شرف النيابة عن الشعب ممارسة مسئولياتهم بشفافية ونزاهة بعيدا عن المهاترات وبعيدا عن بعض السلوكيات التي شابت أداء بعض أقرانهم بالمجلس السابق. المجلس الجديد باختصار هو مجلس تشكيل مستقبل مصر علي النحو الذي نريده ونحققه. انه يجب إن يكون مجلس القوة التشريعية والرقابية الضاربة لتحقيق مستقبل أفضل يستحقه هذا الوطن. أن أمام المجلس الجديد أجندة مليئة بالملفات الساخنة لتحقيق مستقبل أفضل لأبناء الوطن. ماذا يريد الناس؟ ولماذا اختاروا هؤلاء؟ لقد انتخبهم أبناء الشعب لتحقيق حياة ومستوي معيشة أفضل مما يعيشونه الآن. إن الناس تريد فرص عمل ومساكن وتعليما جيدا وتوافرا للخدمة الصحية وخدمات مواصلات ونقل وتوافرا للسلع بأسعار يقدرون عليها وأجورا مجزية ومواجهة قضية اغتصاب أراضي الدولة والأراضي الصحراوية وتحقيق التوزيع العادل لثمار النمو. فإذا أردنا صياغة كل هذه المتغيرات معا فهي تشكل الدور الذي يجب أن يلعبه مجلس الشعب لدراسة كل ملف واتخاذ التوصيات التي تلتزم بتنفيذها الحكومة. وهناك الكثير من الأمثلة التي يستطيع المجلس حسمها منها ملف الاصلاح الزراعي, حيث صدرت قوانين تحديد الملكية عقب الثورة, وفي أوائل الستينات ولا غبار علي أهدافها الرئيسية في مواجهة الاقطاع وتوزيع الأرض علي الفلاحين الغلابة ولكنها بعد سنوات طويلة أدت إلي تفتيت الملكية الزراعية بشكل بشع أضر بالفلاح والانتاجية وأساليب الانتاج نفسها التي أصبح من الصعب تطويرها في ظل هذا التفتيت للملكية والذي لم يؤد إلي نقص الانتاج الزراعي وصعوبة تطبيق سياسات زراعية فحسب وإنما أدي الي تسهيل البناء علي الأرض الزراعية فتحولت إلي مدن عشوائية. ولنأخذ أيضا مثالا واضحا يعانيه المجتمع أشد المعاناة وهو قضية التعليم وتدهور مستواه وظهور التعليم الموازي متمثلا في امبراطورية الكتب الخارجية وامبراطورية الدروس الخصوصية وامبراطورية ما يطلق عليه مجازا السناتر أي المراكز التعليمية للدروس الخصوصية. ووقع المجتمع ضحية فخ مجانية التعليم, فلا هي أصبحت مجانية, ولا أصبح هناك تعليم وتربية. وأصبحت كلمة مجانية التعليم من المقدسات التي لا يجوز أن يقترب منها أحد ومن ثم ظل البقاء والابقاء علي الوضع الحالي المزري للتعليم الذي كلنا نعيشه وكلنا نحتج عليه وكلنا غير راضين عنه ولكن لا أحد يتحرك وتوجه السهام إلي المناهج بينما قلب ودينامو العملية التعليمية متوقف وصديء. ولسنا هنا في دعوة إلي إلغاء مجانية التعليم, ولكن السؤال ما معني كلمة المجانية؟ هل الا يتحمل الطالب أي مليم؟ أم يدفع؟ وإذا اتفقنا علي الدفع كم يدفع في السنة كرسوم دراسية؟ الا تساعد تلك الحصيلة علي انتشال الاسرة المصرية والمجتمع من أزمة التعليم؟ إننا نتصور أن المجلس الجديد يقوم بوقفة حازمة واقتحام جريء يعيد النظر في السياسات التي اتبعت وتغييرها حتي تتلاءم مع المتغيرات والاحتياجات الجديدة للمجتمع وظروفه التي تغيرت.. نريد مجلسا يواجه الملفات الساخنة ويصنع مستقبلا أفضل لمن أعطوه أصواتهم ولمصر. *نقلا عن صحيفة الاهرام