الاستبداد يأكل الأخضر واليابس. ومن الممكن أن يتوه خبر رحيل الدكتور فؤاد زكريا... في زحمة متابعة أخبار أحمد عز وصفوت الشريف وجمال مبارك. ومن يسمع الفلسفة في زمن الانحطاط السياسي؟ الفلسفة لشعوب أكل الاستبداد، بجميع أنواعه، عقلها وروحها...هي مجرد « كلام فارغ». الفلسفة هي طلب المعرفة ومحبة للحكمة. ولا تطلب هذه الأشياء عادة والاستبداد يمرح. الفلسفة والعلم والحكمة والمعرفة...أشياء عزيزة..أصحابها يشعرون بالعزلة..وبأن وجودهم هامشي...وأسئلتهم عن الوجود والحياة لا تهم مجتمعات مازالت تعيش في غيبوبة الاستبداد ولقمة العيش والدروشة والسير وراء الفتاوي الجاهزة لكل عصر ولون من دخول الحمام بالرجل اليمني إلي تحريم استخدام « جوزة الطيب» في الطعام. كل هذا يملأ الفراغ ولا يترك مكانا لأشياء أخري لا تكتسب قيمتها من الاستهلاك أو تلبية الحاجات. المعرفة غريبة هنا..والفكر مرض يستحق التعزية لمن أصيب به. يقولون له :«..مسكين يابني.. أنت عندك فكر». وهكذا مات فؤاد زكريا غريبا في مصر. لم يشعر أحد هنا أن الرجل الذي وهب عمره ليدافع عن قيمة العقل رحل في الزحمة..وببعض الرثاء فقط. وهذه إشارة أخري إلي أن مصر تعاني تدهوراً في المستوي...وانهياراً للجودة. فؤاد زكريا لم تنقصه جرأة خوض المعارك الكبيرة مع نجوم لها شعبية مثل الشيخ متولي الشعراوي والكاتب الصحفي الأشهر محمد حسنين هيكل. لم تكن معارك شخصية. ولا علي مواقع في السلطة السياسية أو الإعلامية... أو جريا وراء ثروة أو شهرة. ومجرد النظر إلي المعارك وأطرافها ومقارنتها مع معارك هذه الأيام يمكن معرفة لماذا رحل فؤاد زكريا غريبا؟ و ماذا فعل الاستبداد في الروح؟ أكلها. مصمصها بالتدريج. بإزاحة الفكر والجمال والقيم الكبري إلي الهامش...واستبدالها بكل ما هو تافه ورديء وأقل في المستوي. لكي تنجح وتصيبك الشهرة وتصعد في سلم الثروات..لابد أن تكون بلا قيمة ولا تحترم العقل ولا التفكير..استعراضياً ماهراً في « خناقات الشوارع». هناك استثناءات مرت بصعوبة من قانون «الاختيار للأسوأ» لكنني اتحدث عن القاعدة التي حولت مصر إلي صحراء جرداء..تجد فيها القيم المحترمة علي طريقة التفتيش عن البترول. والمقارنة ضرورية. والنظر إلي المسافات الشاسعة بين الاحتفاء بشخص مثل فؤاد زكريا وهب حياته للعقل والحرية... وللاحتفاء بشيخ الأزهر الذي مع كامل الاحترام لمجهوداته في التفسير ارتضي بنصيب الانضمام إلي قائمة فقهاء السلطان. أعرف أن الفتاوي رائجة في الحياة والسياسة...وأنها بضاعة يستهلكها مدمنون متعصبون يرتضون من الحياة بالعبادات والدين الشكلي. هؤلاء هم تجسيد اليأس...الذي يريد أن يشتري قصرا في الجنة بعدما فشل في الحياة بسعادة أو بقيمة إنسانية كبيرة. هذا أقسي أنواع اليأس الذي يروج معه الحاجة إلي من يبيعون الأوهام أمام الشاشات وفي المساجد.. أوهام تغيب العقل وتجعل الإنسان فريسة سهلة للاستبداد...وسنينه الطويلة.