أكتب هذه الكلمة قبل ساعات قليلة من إعلان النتائج، وأنت ستقرؤها بعد إعلانها بساعات قليلة. فى مسابقة الأفلام التسجيلية أعرف على وجه الدقة ما الأفلام الفائزة لأنى كنت عضوًا بلجنة التحكيم، ولكن الأفلام الروائية لا أدرى ما قناعات أعضائها ففى التقييم تتدخل عوامل كثيرة فى الوصول إلى النتائج النهائية، قيمة الفيلم تأتى بالطبع فى المقدمة، ولكنها ليست هى الفيصل الوحيد.
شاهدت أغلب الأفلام الروائية، وأرى أن الفيلم الكردى العراقى «بيكاس» سينتزع جائزة، فلديه أكثر من تميز فى الإخراج والتمثيل والسيناريو، المؤكد أن اسمه تردد كثيرًا أمس.
الفيلم يروى بعيون الشقيقين الطفلين مأساة الأكراد الذين يشكّلون قومية لها كل مظاهر القوميات من لغة وفن وعادات وتقاليد وتاريخ وأساطير، ولكنهم مشتتون بين أكثر من دولة، تركيا وإيران وسوريا ولبنان والعراق، المقاومة التى ينتهجها الأكراد للبقاء هى بسلاح الهُوِيَّة، حيث إن اللغة هى واحد من أمضى الأسلحة للذود عنها ولإعلان الحياة، لهذا فإنك تكتشف دائمًا، خصوصا خلال السنوات الأخيرة فى العديد من المهرجانات، أفلامًا باللغة الكردية منسوبة إلى إقليم كُردستان فى شمال العراق، أفلامًا يصنعها أكراد غالبًا ما تحكى عن هؤلاء المشردين وأيضًا المستبعدين بين أكثر من نظام سياسى، إلا أنه فى فيلم «بيكاس» تتجاوز رؤية المخرج كرزان قادر التى تضع فى المقدمة مأساة الأكراد لتصبح إنجيلاً يروى قهر الأوطان فى كل زمان ومكان.
«بيكاس» تعنى بالكردية من لا أهل له. تمكن المخرج أن يحافظ على تدفق وتلقائية الطفلين اللذين أسند إليهما البطولة فى هذا الفيلم الذى تجرى أحداثه فى التسعينيات من القرن الماضى فى عز إحكام قبضة صدّام على العراقيين، وهكذا تجرع الأكراد العذاب مرتين: الأولى لكونهم عراقيين، والثانية لتمسُّكهم بقوميتهم الكردية.
لا تملك على وجه الدقة أن تحدد إلى أى مدى كان المخرج يروى شيئا من حياته، ربما كانت أحلاما لم يعِشْها تحديدًا أو تَحمَّل فى جزء منها ما كابده وعاناه فى ظل حاكم لا يرى سوى العنف والقهر والدموية. نحن مع الطفلين، يعيشان بلا عائلة وليس أمامها سوى التكسب من مسح الأحذية.
حلم الطفلين هو مشاهدة السينما، وليس لديهما ما يكفى لقطع التذكرة، فلا يبقى سوى التسلل إلى دار العرض بما يحمله من مخاطرة، يتجسد أمامهما حلم بالخلاص من خلال شريط السينما فى شخصية «سوبرمان»، البطل الأسطورى، إنه الوحيد القادر على أن يتحدى صدّام، وداخل مخيلة الطفلين يكبر هذا التساؤل: هل يقهر سوبرمان صدام حسين؟ لا يكتفى الطفلان بهذا القدر بل يحلمان بالسفر إلى أمريكا للقاء سوبرمان.
يتجسد الحلم الذى يتوجه صوب أمريكا، وليس لديهما جواز سفر ولا نقود، فقط حمار هو وسيلة المواصلات الوحيدة المتاحة أمامهما لكى يمسكا الحلم بأيديهما.
اللحظة الفارقة هى تلك التى يستشعر فيها الأخ الأصغر بأنه معرَّض لفقدان آخر إنسان له فى الوجود، شقيقه الكبير، حيث يعتقد أنه وضع قدمه على لغم ولا يستطيع الحركة خوفًا من انفجاره، وفى نفس الوقت يحاول إنقاذ شقيقه الصغير بأن يطلب منه الابتعاد عن المكان.
وينتهى الفيلم بأن يُرجِئا حلم السفر، ويكتشف كل منهما أن بداخله من فيض الحب والعطاء سوبرمانًا كامنًا.
الحوار الذى يلتقط مفردات وأحلام ومخاوف وشغب الأطفال كان هو نبض الفيلم. الموسيقى التى إحساسًا بخصوصية الزمان والمكان والإحساس. الفيلم به كل التفاصيل الكردية، ولكنه يستطيع أن يقفز خارج حدود كردستان لترى وجها آخر للصورة وهو الحالة التى يعيشها البشر، فكلنا أينما كنا أمام القهر لا نملك غير الحلم الكاذب. ولكن فى لحظة ما من الممكن أن تتوجه نظرتك إلى الواقع، فلقد اكتشف الطفل فى النهاية أن بقاء شقيقه على قيد الحياة هو الحلم الذى لا يستطيع العيش من دونه.
العراق الآن ليس بالتأكيد هو العراق أيام صدام، والفيلم لم يكن يعنيه أن يفضح دموية صدام، فهو لا يقلِّب فى الصفحات القديمة، كما أنه أيضًا لا يتوقف أمام الواقع السياسى والاقتصادى والاجتماعى والدينى والنفسى والعرقى الذى تحياه العراق بعد إزاحة صدام، الهدف أبعد بكثير من كل ذلك، إنه يبحث عن الهوية الكردية من خلال عيون طفلين تَصوَّرا أن الحلم بالجنة خارج الوطن، فاكتشفا أن الجنة هى الوطن.