جلس الصديقان تاجرا السلاح مهند وجبران، يتحدثان في صفقات السلاح التي أبرماها في عامي الربيع العربي ودرت عليهما أرباحا خيالية، كان مهند قلقاً من تأخر الشحنة الأخيرة الموجّهة إلى سوريا، بعد أن اقتربت ثورتها من عامها الثاني، طمأنه صديقه ضاحكا: لا تقلق يا صديقي، فالطابور الخامس خير عون لنا في كل بلد عربي، تمدهم الدول الكبرى بالمال؛ فيشعلون الثورات والاضطرابات والصدامات، وكلما هدأت الأمور في بلد منها؛ يتولون إشعالها من جديد، ويضطر الجميع إلى شراء السلاح، الثوار يشترونه للدفاع عن أنفسهم، وقوات الأنظمة تشتريه للدفاع عن سلطاتها ومكاسبها، ونحن نزداد ثراء. علا صوت جبران وهو يقول الجملة الأخيرة ضاحكا كالشيطان وهو يفرك يديه، وقد لمعت عيناه ببريق السعادة. قال مهند: لكن أعداد القتلى المتزايدة تؤرقني يا جبران، هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها بوخز الضمير يا صديقي.
ربت جبران على كتف صديقه يهدئ من روعه قائلا: إن لم نقم نحن بهذه الصفقات سيقوم غيرنا بها، وسيسحب البساط من تحت أرجلنا، أنت تعلم يا مهند أننا مجرد وسطاء في هذا المجال، وسيعمد أصدقائنا الغربيين إلى الاستعانة بغيرنا، حينها سنفقد كل سلطاتنا على أعواننا في البلاد العربية، فكر جيدا وتعلم كيف تميت ضميرك كما فعلت أنا، لا تفكر فيمن قُتل أو سيُقتل، ثم قال بلهجة العارف: الأعمار بيد الله لا بيدي ولا بيدك. قدم له كأسا من النبيذ ضاحكا بجنون: إشرب نخب صفقتنا المقبلة. تناول مهند كأس النبيذ وارتشفه بهدوء متفكرا في كلام جبران، وحدث نفسه: صحيح إن لم نقم نحن بذلك سيقوم به غيرنا، وسيلجأ أصدقاؤنا الغربيون موردو السلاح إلى غيرنا، وهم كثيرون، هدأت هواجسه واطمأنت نفسه، وابتسم لصديقه ورفع كأسه عاليا قائلا بصوت مبتهج: نخب المزيد من الأموال يا صديقي الشرير.
سمع دوي طلقات الرصاص في كل مكان في الإسكندرية، وهُرع الأهالي يحتمون من الطلقات الطائشة والهادفة، وأصيب العديد من المتظاهرين، وسقطوا مضرجين في دمائهم وسط صيحات الناس وصراخ النسوة اللواتي تجمعن في الشرفات، وبين سحب الدخان المسيّل للدموع، ظهر خلف تجمع الأهالي بضع رجال يحملون السلاح يطلقون النار بدورهم وهم يصرخون: الانتقام.. الانتقام.. وساد هرج ومرج، ولم يعرف أحدٌ من يطلق النار على من ! ازدادت الصيحات علوا وغضبا، قام بعدها بعض الملثّمين بتكسير واجهات المحال والسيارات الموجودة في الشارع، وأضرموا فيها النار، وبين انفجارات السيارات المشتعلة، وأصوات الرصاص من كل مكان، دوى انفجار رهيب في مركز الشرطة، وسرت همهمات أن الإخوان والسلفيين هم من قاموا بإضرام النار فيه.
ارتفعت صرخات الخوف في حي المزة بمدينة دمشق، إثر إنفجار عبوة ناسفة في أحد مراكز الشرطة، خرج رجال الشرطة على الفور وهم يطلقون النار على المارة انتقاما منهم، سقط العديد من الضحايا نساءا ورجالا وأطفالا مضرجين بدمائهم، علت صيحات الذعر من السائرين في الطريق، وهم يرون مقتل الأطفال والشباب الأبرياء، ومن سحب الدخان الكثيف؛ خرج بعض الرجال الملثمين من أحد البنايات، وأطلقوا النار بدورهم على أفراد الشرطة وهم يصيحون: الانتقام.. الانتقام، وارتفعت ألسنة اللهب عاليا من قسم الشرطة، وسرت الشائعات كالنار في الهشيم أن الإخوان المسلمين والجيش الحرّ، هم من قاموا بإحراقه. هُرع الجميع إلى الملاجئ كما تعودوا من سنين الحرب الأهلية، بعد أن سُمعت أصوات طلقات الرصاص في وسط طرابلس في شمال لبنان، سقط العديد من القتلى والمصابين بعد إصابتهم بطلقات لم يعرفوا من أين تأتي، ارتفعت أصوات النساء الباكيات على الضحايا العُزّل، واكتست الشوارع بلون الدم القاني، خرج من أحد الملاجئ مجموعة من الرجال الملثمين، يحملون بنادق آلية وهم يتصايحون بأصوات كالهدير: الانتقام.. الانتقام، سُمع دوي انفجار هائل وسط سوق طرابلس الشهير، وشوهدت ألسنة النار ترتفع في الهواء، وتصاعدت سحب الدخان الأسود نحو عنان السماء، سرت الأقاويل أن من قام بهذه العملية جماعة تابعة لحزب الله.
انهمرت القذائف كالأمطار الغزيرة في غزة، هرع الناس يحتمون تحت الأنقاض من الموت، وعلت أصوات سيارات الإسعاف والإطفاء في كل مكان تعلن بصفاراتها الكئيبة عن وقوع المزيد من الضحايا نساءا وأطفالا، رجالا وشيوخا، وظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي على التلفزيون، يعلن بابتسامته الوقحة أنه يدافع عن بلاده ضد الإرهابيين المسلمين من حماس والقاعدة، لأن من حق كل دولة أن تدافع عن أرضها ومواطنيها، انتشرت رائحة الموت في كل مكان من غزة، خرج بعض الرجال الملثمين و هم يلوحون بسلاحهم قائلين: الانتقام.. الانتقام، وانتشرت في الهواء رائحة احتراق أشجار الزيتون والبرتقال، واشتعلت النار في مباني حكومة حماس المُقالة، وتهامس الناس أن من قام بإشعال هذه الحرائق هم جماعات فتح وسرايا القدس.
سافر مهند وصديقه جبران إلى أمريكا لحضور حفل تكريم أقامه على شرفهما رئيس المخابرات الأمريكي، استقبلهما في المطار أحد مبعوثيه بسيارة سوداء تابعة للحكومة، وقام بإنهاء إجراءات دخولهما وأقلهما إلى الفندق الكبير ذي النجوم الخمس الذي يحبان الإقامة فيه، وقف جبران إلى جوار صديقه مهند ينظران إلى المحيط و قد تلألأت أنوار المدينة الجميلة، ربت جبران على كتف مهند و هو يناوله كأس النبيذ قائلا: في صحتك.
في مساء اليوم التالي استعدا لحفل العشاء، وعلا رنين الهاتف، كان المتحدث يعلمهما أن هناك من سيقلهما إلى وجهتهما، وصلت بهما السيارة إلى قصر كبير، دخلا وقد أحس كلاهما بالفخر، هب رئيس المخابرات لاستقبالهما مرحبا بابتسامته العريضة، هنأهما على نجاح أعمالهما واعدا إياهما بالمزيد من الصفقات، وارتفعت الأنخاب عاليا في صحة صديقي أمريكا الحميمين.
ولا يزال القتل والتدمير مستمرّين، والفساد والجهل سائدَين، ولا يزال تجار السلاح هم المستفيد الوحيد في بلاد الربيع العربي.