لم يكن غريبا علي الشاعر الكبير سمير عبدالباقي أن يسعدنا بدفتره الثامن الذي يضم بين دفتيه قصائده بالفصحي.. فتلك الموهبة المتفردة التي تفجرت إلي مواهب أبدعت في أدب الأطفال، وفي الكتابة المسرحية الجادة، وفي مسرح العرائس، وفي كتابة الدراسات التحليلية لأدب الأطفال، وفي فن خيال الظل، والتي ساهمت بشكل كبير في تأسيس العديد من مجلات الأطفال التي شكلت وجدان أطفال الأمة العربية كلها، وتلك الأشعار الزجلية التي جابت مصر كلها وعلي رأسها شمروخ الأراجوز.. كل هذه المواهب لم تُثنِه عن كتابة شعر الفصحي الذي جمعه كله في دفتره الثامن الذي صدر حديثا تحت عنوان «دفاتر ابن عبدالباقي.. قصائد الفصحي» والذي يحتوي علي دواوينه الستة من شعره الفصحي: قصائد أولي، ليالي من سجن 77، رحيل المدن، قصائد غير شخصية، قصائد شخصية جدا، أحزان ناصرية من عام الردة. جمع الشاعر قصائده بداية من خمسينيات القرن الماضي وحتي اليوم متضمنة بين أبياتها عمرا كاملا من الغوص داخل بحور السياسة والأدب والتاريخ.. فإذا فتحت الدفتر ستجد يد الشاعر تتلقفك بحنان لتطوف بك بين صفحات تاريخ مصر.. وستكتشف بسهولة أن الشاعر الذي أتي من ميت سلسيل بالدقهلية حيث السواقي وشجر التوت واللون الأخضر الذي يكسو أراضيها، لم تنسِه القاهرة بزخمها وحياتها العاصفة هذه الروح المزهرة وتجلَّي هذا بوضوح في تأثره ببيئته الأولي.. يقول الشاعر في قصيدته «الذي لا يأتي»: ربما شيء بقلب الطين مات ربما شيء بقلبي قد تغير أو تبخر ربما شيء بأعماق البشر قد تكسر أو تلاشي لا تسَلني فأنا أضعف أن أُسأل.. أجهل أن أعرف شيئا جاء مايو مثلما يأتي إلينا كل عام أيقظ التوت علي ترعتنا لاعبَ الأطفال في ساحتنا دسَّ للفتيات زهرات الغرام وكسي القمح ثيابا من زمرد. والشاعر علي قدر إجادته وتمكنه من مفردات الشعر كالوزن والقافية.. ورغم عدم لجوئه إلي دعاوي الحداثة والسفر بعيدا عن أوزان الشعر وقوافيه.. إلا أنه لا يلوي ناصية الكلمات مراوغة لوزن أو جلبا لقافية.. فالمهم أن يصل المعني إلي القارئ صافيا شفافا لا تشوبه شائبة تكلف واصطناع، ولو كان هذا في المقابل سيكلفه بعض الهنات الضعيفة في وزن القصيدة الشعري.. يقول الشاعر في قصيدته «للأحجار أجنحة»: فيا قمم الملوك إليكِ عنا/ وياهمم الصغار بعثت فينا وقومي طفلتي مدي يديك/ نلوذ بدفء ثوبك دثِّرينا وباسم الأرض هبي اقذفيني/ أمزق ما تملكني سنينا أشق بمخلبي أستار ذلِّي/ لقد عاهدتُ قهري لن ألينا ولم توقفه تجربة السجن - التي ذاق مرارتها أكثر من مرة - عن موهبته الشعرية الكبري، بل إنها صقلتها وقوَّمتها.. وكتب في سجنه العديد من القصائد التي جابت الوطن العربي كله.. وهذه القصائد تضمنها ديوانه «ليالي من سجن 77».. حيث يقول في قصيدته «الرحيل شرقا» والتي صدَّرها قبل عنوانها بجملة «الليلة الأولي» وكأنها كانت افتتاحيته في سجنه الجديد: هو السجن حيث تموت الأغاني أغني وأحلم أنك تستمعين إليّ وأنك تنتظرين إيابي كما انتظر التوت صوت اليمام وأن غيابي سيشعل في ليلكِ الراكد اللون شمسا ونجمة فيفقس بيض الحمام ونعبر صوت الجنون ونرحل شرقا لنولد في ظلمات المخاوف والضعف رعدا وبرقا وربما لو أحصينا مفردات الدفتر كله، لوجدنا أن أكثر المفردات استخداما هي مفردات النيل والنخيل والفقراء والخبز.. وربما كان هذا مؤشرا لمدي تغلغل بيئة الشاعر الريفية ودفاعه المستميت عن أهل مصر الطيبين الفقراء الذين كونوا طينتها وأحشاءها، ونضاله طوال حياته دفاعا عن هؤلاء.