مازال ضابط أمن الدولة يشغلني. ماذا قيل له لكي يجرد الطبيب المؤيد للبرادعي من ملابسه؟ كيف يبرر قراره بالتعذيب عندما يختلي بنفسه؟ هل تدرب علي قتل كل مشاعره وعلي أنه من الطبيعي إهانة الناس مادام يملك سلطة أو يحتمي في البدلة الميري؟ هذه النوعية من الضباط وحوش منقرضة في العالم كله. فصيلة نادرة تخلصت منها أوروبا علي مراحل آخرها أيام الحكم النازي. تحتاج هذه الفصيلة إلي دراسة مستفيضة.. من أين تجد الحماية؟ وكيف تتخيل مستقبلها إذا نزعت عنها الحماية؟ أفكر في هذا الضابط عندما يجد نفسه في وضع عكسي.. ماذا يتوقع من الضابط الذي يحل محله ويشعر بالولاء لنظام آخر..؟ هل يتصور أن السلطة خالدة..؟ هل يبرر ما يفعله بتعليمات عليا أو توجيهات بممارسة العنف مع أنصار البرادعي؟ ما فعله الضابط في طبيب الفيوم - حسبما ورد في البلاغ الذي يحقق فيه النائب العام - لا يعني سوي الشعور بالتوتر والانفعال. استخدام العنف بهذه الطريقة المنقرضة دليل ضعف لا قوة. بالتأكيد هذه الفصيلة لا تقرأ التاريخ ولا تعرف شيئا عن مواثيق حقوق الإنسان. جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم ويطارد مرتكبها في كل أنحاء العالم مثل المجرم الهارب الذي لن يجد مكانا إلا في مخبأ لا تصل إليه عيون الساهرين علي حقوق الإنسان. وإذا كان يعتقد أن الدولة في مصر تحمي جلاديها.. فهذا وهم لأن الدولة لابد أن تقدم بين حين وآخر قرابين ليتصور العالم أنها دولة محترمة في حقوق الإنسان تعاقب عشاق العنف. تري الدولة أن ضباط التعذيب حالات فردية وهذا من المفروض أن يخيف الضباط.. لكن يبدو أن هناك ما يقوي قلوبهم..؟ ما سر قوة القلب التي اتخذ بها الضابط قرار ضرب الطبيب وتجريده من ملابسه؟ أبحث داخل هذه النفسية المعقدة للوحوش المنقرضة التي تحرم الناس من أبسط حقوقها: التعبير عن الرأي. هؤلاء يخضعون لتدريبات نفسية وغسيل مخ لا يرون فيه العالم من حولهم ليعرفوا أنهم أدوات من السهل حرقها أو من الطبيعي أن تكون في مقدمة الذين ينزل عليهم العقاب إذا تغيرت الظروف. ولن يكون هناك أقوي من شاوشيسكو في رومانيا الذي حكم بلاده بالحديد والنار وتصور أنه خالد هو وزوجته عاشقة الأحذية الغالية.. ووجد نفسه معلقا علي مشانق في الشوارع انتقاما من المقهورين والمقموعين. هل يتلقي هؤلاء الضباط دورات تدريبية يتعلمون فيها أن المعارضين أعداء الوطن؟ هل هم بهذه العقلية الصغيرة أو ضيق الأفق الذي لا يجعلهم يرون التغييرات في العالم ويرون ما يحدث في مصر..؟ هذه العقلية أقل بكثير من عسكري الأمن المركزي (لعب دوره أحمد زكي) في فيلم «البريء» (تأليف وحيد حامد وإخراج عاطف الطيب). علي الأقل العسكري لم يتعلم ولم ير الدنيا ولم يجد من يفتح له نوافذ العقل. لكن كيف يجد الضابط مبررًا في تربيته أو عقله أو أخلاقه لضرب مواطن وتعريته.. لأنه اختلف مع النظام السياسي؟ هناك فكرة أخري يعتمد عليها الضابط في قوة قلبه وهي أن المجتمع مازال لا يري في التعذيب جريمة كبري. يطالب المجتمع بالحق السياسي في اختيار الرئيس والحكومة. ولا ينتفض من تجريد مواطن من ملابسه وضربه في مكتب المباحث. هناك قبول ما بأن الضرب ضريبة الاختلاف مع النظام. هذه عقلية عبيد يقبلون بالعقاب علي التمرد. العبيد يمكنهم الغضب والصراخ لكنهم لا يستطيعون التغيير.. لأن التغيير مرتبط بإيمان حقيقي بأن التعبير عن الرأي من الحقوق الأولية للإنسان. هذا الإيمان يحتاج نقلة نوعية في العقلية السياسية تري معها أن التعذيب جريمة كبري لا يمكن السكوت عنها. وفي هذا انتقال بالحركة السياسية إلي أفق حضاري.. مختلف عن فهم السياسة علي أنها مجرد آهات غضب أو صرخات جوع في مواجهة السلطة. يحتاج المجتمع إلي أخلاق سياسية جديدة ليتألم جماعيًا من التعذيب ويعتبره جريمة لا تغتفر. هل يمكن أن يتطور الوعي السياسي لينتفض المجتمع بكل رموزه ليقول لن نقبل بالحياة في بلد يتعذب فيه شخص وتسلب فيه كرامته بمنتهي السهولة؟