أسند جبران رأسه على راحة كفه، وهو ينظر إلى الأفق وقد احمرّ بقرص الشمس التي أوشكت على الشروق، غفا لدقائق قليلة وعقله يعمل، ليست هذه هي المرة الأولى التي يراها من هذا المكان، فهذه حدود قريته (خربة الجوز) على الحدود التركية السورية، وفيها تم تجنيده قسرا وهو لم يتم دراسته بعد، كان جالسا في حفرة تحيط بها أكياس الرمل، ومن نافذة فيها وضع بندقية يطل الموت من فوهتها، أفاق من غفوته على صوت القائد يتجول بين العساكر ويملى عليهم الأوامر بإطلاق النار على كل من يتجاوز حاجز الحراسة، سمع جبران صوت إطلاق الرصاص من الخندق المجاور الذي يقبع فيه زميل له، ولمح من بعيد جسدا يسقط على الأرض مضرجا في دمائه، وعلا صوت القائد مشجعا: مرحى مرحى أيها الجندي الشجاع، سنقتل كل من تسول له نفسه المساس بأمن بلدنا الحبيب. أغمض جبران عينيه وانحدرت من عينيه دمعتان، حين تذكر وجه أمه الباكي وهي تودعه بحسرة، فقد جاءت الأوامر بوجوب انضمام كل شباب القرية إلى الفرقة رقم 20، وأن من يتخلف يعدَم فورا، تذكر وجه روضة ابنة الجيران التي انتوى أن يخطبها بعد أن ينهي دراسته في معهد الزراعة، نظر حوله وشاهد قائده يبتعد في سيارة سوداء، قال لنفسه: هذا القائد المجنون لا يتورع عن القتل وكأنه يقتل ذبابا، لقد قتل شيخ قريتنا أمس، لمجرد أنه قال له: حرام عليك، أطلق سراحه إنه مجرد طفل صغير يحمل لافتة، لاأعرف كيف ينام، كيف يغمض عينيه ! كيف ينام بشار ؟ كيف ينام قواده مع هذا القتل البشع؟ كيف ينامون ؟ وراح في النوم فهو لم ينم منذ البارحة..
انتصب جالسا عندما سمع صوت القائد يقول بصوته الكريه: لقد جاءتني أخبار عن وجود بعض العناصر المخربة حول قريتنا، وقف القائد يتفرس في وجوه الفتية الذين لا تتجاوز أعمارهم العشرين عاما وأكمل: أطلقوا النار دون تردد على كل من يتحرك في القرية، هل فهمتم؟ أجابوا جميعا بصوت واحد: نعم سيدي.. توارى القائد خلف الحاجز وهو ممسك ببندقيته الآلية وقد انتفخت أوداجه غرورا بأهميته، بينما قضم جبران رغيفه واستلقى على جنبه، وأغلق عينيه يحلم أحلامه الصغيرة التي لا تتجاوز حدود قريته (خربة الجوز)، سمع صوت الرصاص ينهمر من الخنادق المجاورة ومن خلف الحاجز حيث القائد الكريه، ردد في نفسه: لن أطلق النار أبدا على أهلي وجيراني، تكور في حفرته وهو يكمل حلمه، وقد تلاشى صوت الرصاص من أذنيه رغم قربه منه، وبدأ يراجع أحلامه الصغيرة، بيت صغير يضمه مع روضة بعد أن يتزوجا، عرسهما وقد وقفت أمه وأخواته تزغردن ابتهاجا بالعريس، زوجته تقف في المطبخ الصغير تطهو له ما يحب، ابنه الصغير الذي يشبهه يقفز على ركبتيه، ويركب على ظهره، أرضه الصغيرة وقد نبت فيها الزرع، افترّت شفتاه بابتسامة صغيرة وهو لا يزال داخل حفرته متكورا داخل حلمه، لم يعد يسمع شيئا، ولم يدر كم مر من الوقت حين أفاق من حلمه ونظر حوله فلم ير أحداً من أعضاء فرقته، رفع رأسه ناظرا في كل الاتجاهات لم يكن هناك غيره، وقد قاربت الشمس على المغيب، خرج من حفرته، وهاله ما رأى.. كانت عشرات الجثث نساء ورجالا وأطفالا رُصت في كومة واحدة، انكفأ على الأرض باكيا وهو يرى ابنة الجيران روضة التي يحلم بها، وقد ارتمت فوق صدر أمها والدماء تغرقهما، اقترب منها وتحسس نبضها كانت قد أسلمت الروح.
حمل جثمانها الصغير، وهو يبكي أحلامه الصغيرة متوجها نحو قريته، اقترب نحو منزل أبيها، ودفع الباب بقدمه، وسار إلى حيث يجلس الأب الباكي، وضع الجثمان أمامه وهو يقول له: سأثار يا عمي من قاتلها.. أقسم لك، وخرج يحمل بندقيته متوجها نحو منزل قائد الفرقة.