ليه تدفع أكتر ما دام ممكن تدفع أقل.. هذا هو بالضبط ما تردده القنوات التليفزيونية عندما تتعاقد على المسلسلات الجديدة.. التركى هو البديل الأرخص ولهذا تُقبِل عليه وصارت المساحات التى تحتلها الدراما التركية تزداد عاما بعد آخر، كل ذلك بناء على طلب الجمهور وبما لا يخالف شرع الله، على رأى «إسلامجية» الدستور الجديد! مشاعر الناس هى التى تجبر الفضائيات على اللهاث وراء التركى. بالتأكيد رخص الثمن أحد العوامل المساعدة فى إتمام الصفقات تجاريا، ولكن القناة لا يمكن أن تقدم للمشاهد وجبة درامية لمجرد ملء ساعات فارغة ولكنها وجدت لدى المشاهد رغبة مُلِحّة لتناول هذا المذاق.
أتذكر أننى التقيت فى بانوراما الفيلم الأوروبى منتجا سينمائيًّا معروفا، وقال لى: «سوف نتصدى للغزو التركى، هل تقف معنا فى نفس الخندق؟»، فأجبته «أين هو خندقك؟»، فقال لى: «ليست فقط الدراما ولكن ألم تلاحظ مثلا أن الشارع المصرى صار يتحدث الآن شامى بسبب (دبلجة) المسلسلات باللهجة السورية، ابنة أختى تقول لى (مهضوم يا خالو)!».
أجبته: لماذا تستعين فى مسلسلاتك بالفنان السورى جمال سليمان ولم تسند الدور مثلًا إلى فاروق الفيشاوى؟ من المؤكد أن لديك أسبابك الفنية والاقتصادية والتسويقية فى اختيارك فنانًا سوريًّا ولم تأخذ البديل المحلى المتوفر حتى ولو كان أرخص.. عندما حاولت نقابة الممثلين المصرية قبل خمس سنوات إيقاف التعامل مع الفنانين العرب رافعين شعار «جحا أوْلى بلحم طوره» ألم تكن أنت واحدا ممن تصدوا لجحا على اعتبار أن الفن لا يعرف الحدود الجغرافية.. الموقف لا يتجزأ إما أن نتعامل باحترافية وإما أن نعود مرة أخرى لتنفيذ قرارات المنع والتحجيم التى تجاوزها الزمن.
هل كان الأمر له علاقة بمصلحة ما فى الدفاع عن وجود الفنان العربى وعندما انتفت المصلحة أصبحنا نتباكى على المصرى الذى يضيع حقه أمام التركى المستورد..؟ هل تستطيع حقيقة الدولة أن تسيطر على الفضاء..؟ الأزهر الشريف بما له من قوة روحية على أغلب المسلمين أصدر قرارا بتحريم مشاهدة مسلسل «عمر» الذى عُرض فى قناة «إم بى سى» فكيف كانت النتائج حتى بغضّ النظر عن المستوى الفنى للمسلسل الذى لم يكن بمقدار التوقع ولكن الناس شاهدته وبكثافة وهو ما تكرر قبلها مع مسلسل «الحسن والحسين ومعاوية» الذى احتجّ عليه الأزهر؟
هل تستطيع نقابة السينمائيين أو غرفة صناعة السينما أو وزارة الثقافة أن تفرض على شركات الإنتاج عدم شراء نوع محدد من البضاعة الدرامية؟ ولو افترضنا وامتنعت الفضائيات المصرية عن شراء التركى فهل تتصور أن المشاهد سوف يحذو حذو القنوات ويقاطع..؟ بالتأكيد سوف يبحث عن المسلسل فى فضائية عربية ونكتشف أن الخاسر هو الإعلام المصرى!
الحقيقة هى أن شركات الإنتاج تدفع الملايين أجورا للنجوم بينما الفضائيات كانت تشترى هذه المسلسلات بالأجر الذى تريده الشركة الآن، تلك القنوات تساوم على الثمن بسبب توفر البديل الجيد. وكما أن البضاعة الصينية دخلت إلى كل شىء فى حياتنا: الفوانيس والسجاجيد بل وغشاء البكارة الصينى، تكرر الأمر مع الدراما التركية.. ويمكن تلخيص تلك المعادلة على هذا النحو، تاجر سورى شاطر اشترى حق التوزيع لمسلسل تركى وقام بالدوبلاج، لماذا لا تفكر مثلا إحدى شركات توزيع الفيديو المصرية فى لعب هذا الدور وشراء المسلسل ودبلجته للمصرية وبدلا من «مهضوم يا خالو» تصبح «دمك خفيف يا خالو»؟!
الحقيقة أن الدوبلاج تحديدا لدينا مشكلة مزمنة فى ضبطه وإحكامه، سبق مثلا فى الستينيات فى أثناء التوجه إلى المعسكر الشرقى، كان هدف عبد الناصر أن ينشئ منظومة متكاملة لا مجرد استيراد سلاح سوفييتى كما كان يُسمَّى الاتحاد السوفييتى قبل البروسترايكا.. المصريون لم ينجحوا وقتها فى دوبلاج الأفلام من الروسية للهجة المصرية ولم يقبل الجمهور على تلك الأفلام.. الناس لم تقتنع ليس فقط بسبب رداءة الدوبلاج ولكن لأنهم لم يجدوا فى هذه الأفلام الحس الإنسانى الذى يبحثون عنه.
قانون الفضاء بات يفرض على الجميع المرونة فى التعامل إذا وجدت أن التركى يُباع ب10% فقط من سعر المسلسل المصرى الجديد، عليك أن تلعب فى اتجاهين: تحسين البضاعة الدرامية المصرية، والثانى تخفيض السعر.
التنافُس هو القانون الذى فرضه الفضاء.. مشاعر الناس تحركت بُوصلتها تجاه التركى وعلينا أن نفكر كيف نعيد المشاعر لتتوجه مرة أخرى إلى المصرى.. هذا هو الكلام المهضوم يا خالو!