ما بين الريشة والبطحة تتماهى قضايا الصحفيين وتتفاعل.. ترتفع وتنخفض.. تناقش بانفعال لا يصل إلى حل.. تفتح وتغلق على نفس الجرح. المسئولون كبيرهم وصغيرهم يوحى إلى الناس أن الصحفى على رأسه ريشة ولا يريد أن يحاكم بالحبس.. ولا أدرى إن كان هذا عن جهل أو عن ترصد وإصرار، فإذا كان عن جهل، فهذه مصيبة حيث يجلس المسئولون الآن على مقاعد الحكم والتحكم مما يجبرهم على معرفة ما يقولونه فى تصريحاتهم، وإذا كان هذا عن ترصد وإصرار فالمصيبة أكبر لأنهم من يعدون الدستور والقوانين التى ستنظم الصحافة فتمنحها الحرية أو تسجن من يتجرأ على المحاسبة والنقد والتحليل.
والصحفيون كبيرهم وصغيرهم يرى أن البطحة والجرح والألم هو الذى على رأسهم الآن، فهم يتعرضون بالفعل إلى البطح من الطوب فى الميادين وإلى الضرب فى بيوت أو أماكن عمل المصادر وإلى المنع من الكتابة والإيقاف عن العمل إذا ما أغضبوا من يجلس فوق مقعد السلطة رئيسا أو رئيس تحرير !
البطحة أو الجرح الأخطر آراه أنا فى انقسام الصحفيين وعزوفهم عن القيام بأى اعتراض على ما يحدث لهم، وما سيحدث لهم، من إصرار على تقييد الحرية وإفساد المهنية واللعب على لقمة العيش.
العدد الأكبر من الصحفيين الآن لا يهتمون بالحريات والحقوق ولا حتى بالمهنية والواجبات، فمنهم من يبحث عن لقمة العيش، فيرضخ لأوامر رئيس التحرير وتعليماته وحتى أمنياته تمسكا بالمثل الشائع (أمنياتك أوامر يا ريس ).. ومنهم من يحل مشكلته بشكل فردى فيعمل فى الإعلانات ويخلطها بالتحرير أو يبحث عن وظيفة استشارية فى الوزارة التى يغطى أخبارها، بدلا من الانضمام إلى حل جماعى يطالب بأجر مناسب للصحفيين الذين لا يعرف الكثيرون أن معظمهم لا يصل مرتبه إلى ثلاثة آلاف جنيه بعد أن يقضى 63 عاما فى العمل، ولا أنكر أن هناك من هو مهموم بقضايا المهنة، ولكنه من كثرة الهموم أصيب باليأس والاكتئاب واللامبالاة وامتنع عن المشاركة فى أى احتجاجات، فوصل الحال بنا إلى أن النقابة عندما تدعى الجمعية العمومية لمناقشة قرار مهنى لا يحضر فيها أكثر من خمسين صحفيا نصفهم جاء ليغطى الحدث وليس للمشاركة فيه.
پ ماذا حدث لنا وماذا أصاب رءوسنا بعد اتهام البعض بأن عليها ريشة بينما نحن نتحسس البطحة ؟!
أتذكر موقفا حكى عنه الأستاذ جلال الحمامصى - رحمه الله - لتلاميذه، وكنت منهم منذ أكثر من ثلاين عاما يتلخص فى أن الصحف جميعها قد قررت معاقبة أحد الوزراء بعد أن أهان أحد الصحفيين فامتنعت عن نشر اسمه وأخباره لفترة شهر بعدها شعر بخطئه فاعتذر للصحفى على الفور.
الآن يسب أحد المشاهير صحفية صغيرة بلفظ يعاقب عليه القانون ينتهى بكلمة ( أمك) فيتهافت عليه الصحفيون ومعدو البرامج التليفزيون لعمل لقاء وهم يعرفون تماما أنه سوف يسب ويقذف آخرين، بدلا من مقاطعته.
الآن يمنع رئيس تحرير مقالا لكاتبه أو كاتب معروف فيقدم كبار الكتاب، والكاتبات مقالاتهم إليه بدلا من المشاركة والتضامن مع الزميل أو الزميلة خوفا من أن يفقدوا مكان مقالهم أو مكافأة صغيرة لا تستحق.
تصوروا معى جريدة يمتنع كبارها عن الكتابة تضامنا وما يمكن أن يحدث لرئيس التحرير من إحراج مع القراء يجعله يفهم مكانة الكلمة.
الآن يضرب مصدر صحفية وصحفياً ومصوراً ويسبهم بأفظع الشتائم ثم يظهر على الفضائيات ليشرح موقفه فيعاود السب مرة أخرى ويتسابق المعدون الذين هم فى الأصل صحفيون إلى الخروج منه بأى تصريح.
الآن يقبل صحفى على نفسه أن يحمل سيرة حياته ودوسيه أعماله ليقدمه إلى لجنة فى مجلس الشورى لتعطيه رقما من عشرة ليعين رئيس تحرير متصورا أنه أصبح بالفعل حرا فى نشر ما يراه، فيكتشف أن من عينه يستطيع أن يوقفه بقرار، ثم يأتى زميل له كان قد قدم نفسه ورفض ليحل محله وحين يعاتبه البعض يجيب ( صاحب الدكان يعين من يريد.. أصبحت الصحيفة دكان بقالة يعرض بضاعة يرضى عنها المسئول وعلى القارئ أن يبحث عن أول حائط يضرب رأسه فيه ويصاب هو أيضا برغم أنه دفع ثمن الصحيفة بالبطحة.
الآن يجلس رئيس مجلس الإدارة مع رئيس التحرير ليدبر مرتبات العاملين لأن مجلس الشورى يمتنع عن الدفع لأن الصحف والمجلات لا تكسب، ولا يسأل أحد مجلس الشورى لماذا تخسر الصحف والمجلات القومية ومن المسئول عن ذلك الصحفى الذى يؤدى واجبه أم صاحب السلطة الذى يريدها بهذا الشكل والمضمون.
الآن خلع الصحفيون عن رؤوسهم الريشة المفترضة والتى صورها البعض على أن الصحفى لا يريد أن يسجن بالقانون إذا ما ارتكب جريمة ( سرقة - قتل - نصب ) والحقيقة أنه لا يريد أن يسجن لأنه كتب رأيا أو كشف فسادا أو حلل واقعا أسود.. خلع الصحفيون الريشة واستقبلوا البطحة ولن تكون هذه النهاية.