يا من تذهب سوف تعود.. يا من تنام سوف تنهض.. يا من تمضى سوف تُبعَث.. فالمجد لك.. للسماء وشموخها.. للأرض وعرضها.. للبحار وعمقها! لم ألتقِ المخرج الكبير شادى عبد السلام -الذى غاب عنا قبل 26 عامًا فى مثل هذه الأيام- سوى مرة واحدة وذلك فى مطلع الثمانينيات.. لم تغادرنى بساطة وتواضع وتفانى شادى وهو لا يشعر إلا بالاستياء لأنه من خلال موقعه الوظيفى لم يستطِع أن يقدم شيئًا لتلاميذه، فلا توجد إمكانيات.. كان شادى يحلم أيضًا بفيلمه الروائى الثانى «إخناتون»، ومات بعد أن نهشوا بأنيابهم حلمه الأثير.
عندما أتذكر شادى لا يتبقى بالطبع هذا الحوار الصحفى العابر بينه وبينى ولكن فيلمه «المومياء» هو الذى يحتل كل الكادر.. سحر خاص يملكه هذا الفيلم، إنه النداء الذى يظل يسرى داخلك حيث تستمع إلى صوت يعلو ترديده يحفزك لأن تراه مرة أخرى.. شاهدت الفيلم وأنا طالب فى معهد السينما فى مطلع الثمانينيات ولا أتذكر بعد ذلك أنه قد أتيح لى فرصة أخرى لمشاهدته، كنت أسمع فقط ما يتردد من أن النسخة مهددة بالفناء ثم أنقذها مارتن سكورسيزى من خلال مؤسسته العالمية التى يرأسها والمنوط بها الحفاظ على التراث السينمائى.. وعُرض الفيلم فى مهرجان كان قبل ثلاثة أعوام ثم فى مهرجان الدوحة تريبيكا فى أول دورة للمهرجان حضرها أيضًا مارتن سكورسيزى، وبعد ذلك أصبحتُ من مجاذيب «المومياء».
الفيلم يبدأ بتلك الجنازة التى يقدمها شادى عبد السلام بلقطة بعيدة من خلال كاميرا المبدع عبد العزيز فهمى، حيث نرى الحالة الأسطورية التى نسجها شادى ببراعة.. الغموض المشوب بالوقار يغلف المكان فى وداع الموتى، كل التفاصيل تتوجه من أجل خلق هذه الحالة، موسيقى ماريونا شمبين، المونتاج للمبدع كمال أبو العلا، حركة الممثلين التى تتوافق بهذا الإيقاع الرتيب... قال الناقد الإنجليزى جون راسل تايلور بعد أن شاهد «المومياء» قبل 42 عامًا: «لقد عثر شادى وهو يبعث الحياة فى الروح المصرية القديمة على لغة سينمائية جديدة مدهشة عجيبة خاصة، ربما نحتاج إلى حجر رشيد آخر لكى نستطيع أن نحل شفرة هذه اللغة بكاملها. لا أتصور ذلك ولكن فقط نحتاج إلى أن نعيش مفردات الحالة التى نسجها شادى لكى نأخذ تأشيرة بالدخول إلى عالمه».
طريق الماعز الذى يسير فيه فريق اللصوص الذين يتاجرون فى الآثار.. إنها رزق عائلة الحربات الذى مات عائلها والد أحمد مرعى وأحمد حجازى وصار على الأبناء أن يعرفوا جميعًا السر.. القديرة زوزو حمدى الحكيم التى تؤدى دور الأرملة وبنظرة من عينيها تملك السيطرة على مقدرات الأسرة.
الحوار الذى اشترك فى كتابته شادى عبد السلام مع علاء الديب يأخذ من الفصحى جلالها وكمالها وصفاءها كأنها ماء مقطر من الشوائب، وقبل ومع وبعد كل ذلك جرسها الموسيقى الأخَّاذ ولكنك بسبب بساطة الكلمات المستخدمة تُشعِرك كأنها لغة التخاطب اليومى فى الحياة.
الإيقاع الذى سيطر على الفيلم يمنحه خصوصية تجمع بين الجمال والجلال، بين الموضوعية والاحتفالية.. الخطوط الفرعونية لا نراها فقط فى التماثيل ولكن وجوه البشر فى الفيلم تنطق دائمًا بالجذور، كأن المكياج محفور على تلك الوجوه.. ما الذى منح الفيلم كل هذا السحر؟ ليس القيمة الدرامية بقدر ما هو التعبير الإبداعى الذى نسجه شادى عبد السلام.. حركة الكاميرا تسيطر على أحداث الفيلم أكثر من حركة الممثل، لهذا فإن التعبير الذى يطل من الوجوه يلعب دور البطولة، هكذا شاهدنا الصامتة العظيمة نادية لطفى لم تؤدِّ سوى ثلاثة أو أربعة مشاهد تطل من خلالها فقط علينا فلا ننساها.. الحوار المكثف أحد أسلحة شادى فى التعبير، فهو يأخذ الكلمة القادرة على الإيحاء فى تلك الأجواء التى تشم من خلالها مصر التاريخ، نرى الآثار ليست بناءً ساكنًا فهى قائمة بقوة منحوتة من الصخور تتحدى الزمن بصمتها، ولكن شادى عبد السلام خلق من خلال السينما لغة الحركة، استطاع أن يُحيل صمتها وسكونها وثباتها إلى بلاغة وثبات فى التعبير.
يقول الحكيم المصرى القديم: «إذا كانت قشرة الذهب توضع فوق السبيكة لتظهرها ذهبًا خالصًا فإنها فى الفجر تُمحَى ولا يبقى غير القصدير.. رددها يا بُنَىّ كثيرًا وكن ذهبًا حقيقيًّا».. كانت هذه هى حكمة شادى عبد السلام المفضلة، وهكذا كان شادى ذهبًا حقيقيًّا... ويا من تمضى سوف تُبعث.. فالمجد لك!