تظل قدرة الفنان على الاستمرار في العطاء هي الفيصل في الحكم على مدى عمق وصدق موهبته.. في العادة يخصم الزمن من الفنان شيئا من قدرته الأدائية، وقارنوا مثلًا بين صوت أم كلثوم في ذروة ألقها فى الأربعينيات والخمسينيات، وأم كلثوم في نهاية الستينيات حتى توقفها عن الغناء في الحفلات مطلع عام 1972.. الزمن بقدر ما يخصم من الفنان فإنه أيضًا يضيف إليه، وهكذا يأخذ منه القوة ويمنحه اللياقة.. الخبرة تتيح للفنان أن يكسب الجماهير مهما تقدم به العمر. لم يعرف العالم العربى مطربًا استمر فى الغناء ما يربو على 70 عامًا إلا وديع الصافى.. أم كلثوم غنت وهى طفلة ورحلت فى ال75 من عمرها، وعبد الوهاب رحل بعد أن وصل إلى التسعين.. صحيح أنه استمر فى التلحين حتى اللحظة الأخيرة لكنه توقف عن الغناء قبلها بخمسة عشر عامًا، وحتى تسجيله بصوته لأغنية «من غير ليه» الذى ظهر عام 1988 اكتشفنا أنه كان صوت عبد الوهاب قبلها بأكثر من 10 سنوات فى أثناء البروفة مع عبد الحليم، أى أنه لا أم كلثوم ولا عبد الوهاب استطاع أى منهما أن يغنى 70 عامًا متواصلة، ولكن وديع الصافى فعلها.. ونتمنى من الله أن يعبر أزمته الصحية ويمنحه المزيد من السنوات ليظل دائمًا قادرًا على إنعاش ليالينا وأيامنا بصوته الصافى! أن تصل إلى القمة وتظل كل هذه السنوات على القمة هذه هى المعادلة الصعبة وهذا هو ما استطاع أن ينجزه وديع الصافى الذى تجاوز بعام شاطئ التسعين.. إنه صوت الجبل الذى لم تقهره سنوات العمر.. استطاع وديع بموهبته طوال هذه السنوات أن يظل مطلوبًا فى المهرجانات والحفلات، صحيح أنه فى السنوات الأخيرة لم يعد قادرًا على الحركة بسهولة خارج حدود لبنان حتى إن المركز الكاثوليكى المصرى قبل نحو عامين عندما تقرر منحه جائزة تقديرية انتقل إلى بيروت رئيس المركز الأب بطرس دانيال لكى يقلده درع التكريم عن مشواره الفنى المرصع بعشرات، بل مئات من النجاحات! وديع الصافى أتيح لى أن ألتقيه بضع مرات فى القاهرة، أتذكر منها مثلًا ندوة وحفلًا بنقابة الصحفيين قبل عشرين عامًا عندما وجهت إليه الدعوة وسارع بتلبيتها دون أى شروط ولم يحصل إلا على شهادة تكريم ورقية من النقابة، قال أمام الجميع إنها تعنى له الكثير، وبعدها بدأ فى الغناء بالعود، وكان يصاحبه ابنه جورج، وكانت سهرة لا تُنسَى. الفنان عادة ليس هو بالضرورة الإنسان دائمًا، هناك صورة ذهنية يتم تصديرها للناس، إلا أن الفنان والإنسان وديع الصافى وجهان لعملة واحدة.. بداخل هذا الفنان الكبير روح التسامح، وقلب الطفل لا يزال يسكنه لم يغادره، وأروى لكم هذه الواقعة التى حدثت له قبل نحو ثلاثة أعوم.. كان أحد المدعين قد انتحل شخصية ابنه وبدأ يتصل بالأثرياء يطلب المساعدة بحجة أن والده وديع الصافى يعالَج فى المستشفى ولا يجد أموالًا، وصدق هذه الحيلة عدد منهم، ثم كالعادة فإن أى كذبة مهما طال بها الأمد يتم اكتشافها، وعندما علم وديع بذلك بعد أن تمكن أحد الأثرياء الذين احتال عليهم هذا النصاب من الاتصال به طلب وديع من قوات الشرطة التدخل وتم نصب كمين وإلقاء القبض على المدعى، فما الذى فعله وديع؟ ذهب إلى قسم الشرطة ثم التقى الجانى، وفى أثناء التحقيق معه أكد النصاب أن الذى دفعه إلى ذلك هو حاجته إلى المال، وطلب المجرم من وديع العفو عنه فغنى له وديع «الله يرضى عليك يا إبنى.. ظهرى انكسر والهمّ دوبنى.. الله يرضى عليك يا إبنى».. وبكى الشاب تأثرًا، ولم يكتفِ وديع بالغناء لهذا الشاب بل منحه أيضًا ما تيسر من أمواله القليلة.. هل رأيتم تسامحًا أكثر من هذا؟! اسمه الحقيقى وديع فرنسيس، أما الصافى فلقد اشتهر صوته بالصفاء وهكذا ارتبط به هذا التشبيه الذى أصبح بعد ذلك اسمًا له.. كانت بدايته دينية داخل مدرسة كاثوليكية، وبدأ فى تعلم الإنشاد الكنسى، وهذا هو سر الروحانية التى تنساب بين نبرات صوته. فى لبنان صار وديع العلامة الغنائية الأبرز مثل فيروز والرحبانية.. رمز لبنان هو العلم الذى لا ترى فيه فقط شجرة الأرز، لكن الفنانين الكبار يصنعون اسم البلد وعلمها ورمزها!