انتبه.. الحركة بحساب! فالشك سمة أساسية فى أى شخص غريب، ولائحة اتهامه جاهزة قبل التعرف عليه، فالجيش يؤمِّن الشمال، وحزب الله يحمى الجنوب، لكن فى منطقة شيعية فى الشمال الكل حاضر ومترقب ومتحفز، جنود الجيش وأفراد حزب الله، وبعض الأشخاص العاديين أيضًا! هنا «زقاق البلاط» سابقا أو «البطريركية» حاليا، حيث ولدت جارة القمر فيروز. منطقة شعبية شيعية يتصدرها علم لبنان، لكنها أيضا يوجد بها سُنة ومسيحيون، وعشرات الصور المعلقة، على الجدران التى تؤكد وحدة لبنان، وتجمع بين زعماء السنة والشيعة والمسيحيين، وقد اكتسبت منطقة زقاق البلاط اسمها وشهرتها عند قيام الدولة العُثمانيّة برصف أزقتها بالبلاط، وقد كانت المنطقة مميزة بطابعها الأرستقراطى، وكثرة قصورها التى لا يزال بعضها قائمًا إلى الآن، لكن فى صورة أطلال. زقاق البلاط تقع غرب بيروت بالقرب من ساحة رياض الصلح، وتبدأ بمسجد شيعى كبير يحمل اسمها، وتعلوه لافتة «الله لا مكان له فهو موجود فى كل مكان»، ويعد هذا المسجد واحدًا من أبرز معالم المكان. بعد أن تترك المسجد تجد سلسلة من المحلات القديمة على جانبى شارع «أمين بيهم» المؤدى إلى منطقة «البطريركية» وتحديدًا شارع 64 لكن أغلب من يعملون فى هذه المحال لا يعرفون أن جارة القمر مرت من هنا، وعاشت هنا إلا بعض كبار السن الذين يعلمون تاريخ المكان ومكانته. اقتربت من سيدة تجاوزت الستين، بعد أن أكد لى أغلب من سألتهم أنها ستعرف بيت فيروز، وبالفعل بمجرد أن سألتها دلتنى على المنزل الذى ولدت فيه قبل 77 عامًا الطفلة «نهاد وديع حداد» السيدة فيروز فى ما بعد. لكن السيدة العجوز قالت لى إنها لا تعرف طريقة دخول المنزل الذى يقع فى حراسة الجيش، الذى يمسك بمن يشتبه فيه، فما بالك إن كان غريبًا. الدخول إلى بيت السيدة فيروز مخاطرة كبيرة، خصوصا أن هناك لافتة تؤكد ذلك، لكنها مغامرة تستحق القيام بها! لكنى ذهبت بعد أن أخفيت الكاميرا فى ملابسى، وقمت ب«اللف والدوران» حول المنزل أكثر من مرة عن بعد، حتى وجدت طريقة الدخول وتسللت إلى داخل البيت الذى ولدت فيه جارة القمر، والذى لم تفصح عنه إلا منذ ثلاث سنوات فقط، بعدها قررت بلدية بيروت تحويل هذا البيت المهمل منذ سبعينيات القرن الماضى إلى متحف أثرى وثقافى، كما عملت وزارة الثقافة على ختمه بالشمع الأحمر مانعة بذلك صاحب العقار من هدمه أو التصرف فيه. طريق واحد فقط لدخول البيت دون أن يراك أحد، وهو أن تذهب إليه من الخلف، حيث ممر صغير يؤدى إليه ويجعلك فجأة بين أطلاله، وأمامه جدرانه ونوافذه التى ترك الزمن بصمته واضحة عليها، فالبيت رغم مرور سنوات على قرار تحويله إلى متحف إلا أن شيئًا لم يتغير داخله، فهو ما زال كما هو آيلًا إلى السقوط، ونوافذه محطمة، وجدرانه مهدّمة، ولم تجر أى محاولة لترميمه أو إعادة بنائه. لكن الشىء الوحيد الذى تغير هو أنه بمجرد أن تضع قدمك فى الشارع تجد لافتة أمامك تخبرك «انتبه.. ثكنة عسكرية.. التصوير ممنوع» وتتكرر هذه اللافتة ست مرات فى مساحة لا تزيد على مئة متر، وعرضها لا يزيد على ثلاثة أمتار بعد أن اقتطعت مدرعات الجيش وسياراته المساحة الباقية من الشارع، فهناك أربع مدرعات وسيارتان تابعتان للجيش، علاوة على عشرات العساكر من الجيش اللبنانى الذين يتناوبون دوريات الحراسة أمام «بيت طفولة السيدة فيروز» وهم يحملون البنادق الآلية فى أيديهم على مدار 24 ساعة. المدهش أنه لا أحد يعمل داخل البيت الذى تحرسه كل هذه الترسانة العسكرية. ليس صعبًا تحديد موقع فيروز داخل البيت المكون من طابقين، فقد كانت فيروز تسكن مع أسرتها فى حجرة واحدة من هذا المنزل وتقع فى الطابق الأرضى، فقد قالت عندما تحدثت عن بيت الطفولة «لقد كان منزلنا يتألف من غرفة واحدة، وكنا نتشارك مع الجيران فى مطبخ مشترك». عاشت فيروز فى هذا البيت على مدار عشرين عامًا، وتعلمت فى إحدى المدارس القريبة من البيت، ثم نقلها والدها إلى مدرسة البطريركية، ولم تغادر فيروز هذا المنزل المتواضع إلا حين تزوجت من عاصى رحبانى فى منتصف الخمسينيات. من هنا ظل هذا المكان محفورًا بداخل فيروز، فرغم أنها تركته منذ ما يزيد على الخمسين عاما فإنه يحمل بين جدرانه كل ذكرياتها، حتى وإن كانت ذكريات لحياة صعبة لكنها بقيت عالقة فى عقلها وقلبها معا.