يحكى أن النعمان بن امرؤ القيس ملك الحيرة؛ أحد ممالك العرب القديمة، أراد بناء قصر لنفسه لا يباري جماله مبنى آخر، فاستعمل مهندسه (سنِمّار) ليقوم له بهذه المهمة، وأنجز سنمار ما طُلب منه وبنى للملك قصرا لا يداني بهاءه وروعته قصر آخر أسماه (الخورنق)؛ أي المبنى العظيم الرائع؛ ومن هذه الكلمة اشتُقت تسمية المعبد الكبير في الأقصر (الكرنك)، المهم أن الملك النعمان استدعى المهندس البارع سنمار، وسأله إن كان يستطيع أن يبني قصرا مشابها للخورنق، فأجابه أنه يستطيع أن يبني أحسن منه، ولأن الملك لا يريد لقصره شبيها؛ فما كان منه إلا أن دفع سنمار من فوق سطح القصر ليسقط صريعا، وضرب بهذه الحادثة المثل في الجزاء حين يكون إساءة مقابل إحسان ! في هذا المقال؛ مصر هي الملك النعمان، وأطباؤها سنمّار، وقد قذفت بهم بمنتهى القسوة والجحود من أعلى جبل المقطم، ليسقطوا وتدق رقابهم برغم أنهم لم يقدموا لها ولأبنائها إلا كل خير، ولم يتلق معظمهم منها في المقابل إلا كل صفعة تلو الصفعة، والإهمال تلو الإهمال، وبعد أن أفنوا أعمارهم وسهروا لياليهم وحصلوا علومهم، وتفوقوا في مدارسهم وكلياتهم؛ لم يجدوا أمامهم إلا الندم على ما اقترفوا في حق أنفسهم..
كيف يراد لنا أن نربي أبناءنا ؟ هل نخطئ فى حقهم إذ نربيهم على الالتزام وحب العلم وتقديس العمل المنتج النافع ؟ كيف يكون ردي على ابني حين يفاجئنى بأمنيته أن يصبح حين يكبر لاعب كرة أو مغن ؟ هل تهاوت قيمة العمل النافع عندنا إلى هذا الحد ؟ كانت أمنية الفتى من جيلنا أن يصبح ضابطا أو طبيبا أو مهندسا أو عالما، وكان يبذل قصارى جهده لتحقيق أمنية كهذه، أما الآن فالأماني تبدلت، والطموحات تغيرت، واهتمامات الدولة سحقت آمال الأطباء، فمرتب الطبيب المقيم ارتفع إلى 300 جنيه، بينما حدد المجلس القومي للأجور أدنى أجر للعامل غير المؤهل ب 400 جنيه، وفي الوقت الذي يرتع فيه عشرات آلاف المستشارين في الحكومة ليتلقوا مرتباتهم عشرات المليارات؛ تم رفع بدل نوبتجية للطبيب المقيم إلى 45 جنيه، بحد أقصى 8 نوبتجيات شهريا (عشان مايفتريش).
وإن قام باثني عشرة نوبتجية؛ لا يصرف له إلا مقابل ثمانية، وشريطة أن تكون مدة النوبتجية 24 ساعة، أما الطبيب الإخصائي فى وزارة الصحة؛ يعنى ست سنوات دراسة وسنة تدريب، وثلاث تجنيد، وثلاث ماجستير، واثنتان دبلوم، وخمس سنوات دورات تدريبية، وعمره الآن 48 سنة؛ فمرتبه 750 جنيه شاملة الحوافز والنوبتجيات، ومرتب إستشاري جراحة العظام الحاصل على الدكتوراه منذ 12 سنة لا يتعدى 500 جنيه بالحوافز دون نوبتجيات (لأنه كبُر على النوبتجيات !).
والأمثلة كثيرة جدا، تدل جميعها على الظلم الفادح الذى يتعرض له الطبيب - كمثال للمتعلمين المطحونين- فى مصر، منذ تخرجه حتى تقاعده إن كتبت له الحياة، وبرغم الآمال العريضة التى راودته فى شبابه حين التحق بالكلية بعد تفوقه في الثانوية العامة؛ ثم تحطمت، وبرغم السنين الطويلة التى قضاها فى الدراسة، والجهد الهائل الذى بذله فى تحصيل العلم - على تواضع مستواه - والتدريب الشاق الذى مر به، وبرغم النوبتجيات؛ وما أدراك ما النوبتجيات فى المستشفيات المصرية فى الاستقبال وأقسام الطوارئ، وبرغم عظم ما أنفق عليه أهله ليصبح طبيبا؛ وبرغم الليالي والأيام التى قضاها مع مرضاه؛ برغم هذا كله وكثير غيره؛ فما يناله من العائد المادي الحكومي لا يكاد يوفي احتياجاته اليومية ليسد به رمق أهل بيته، وعليه أن يلجأ إلى العمل المسائي فى عيادة أو مستوصف أو مستشفى يحصل منه على بضعة جنيهات تقيم أوده، ويسد بها حاجاته وحاجات أسرته.
وعلى الجانب الآخر.. أذكر لكم - ولا حسد - بعض الأخبار التى تداولتها الصحف قبل مأساة مباراة بورسعيد أي منذ أكثر من عام مضى: اللاعب الذي لفظته أندية أوروبا تعاقد مع نادى الزمالك مقابل 3 ملايين جنيه سنويا خالصة الضرائب، وخمسة ملايين جنيه من رئيس النادى، وبضعة ملايين أخرى من الإعلانات.
مدرب فريق النادى الأهلى كان يحصل على مرتب شهرى 80 ألف يورو. مرتب (المعلم) مدير الفريق الوطنى ربع مليون جنيه شهريا (بأمر الرئيس السابق)، وحصل على مكافأة الفوز فى بطولة أفريقيا العام قبل الماضي 3 مليون جنيه خالصة الضرائب. مدربو الفريق الوطنى يحصل الواحد منهم على 150 ألف جنيه شهريا، وحصل كل منهم في العام الماضي على مكافأة مليون جنيه خالصة الضرائب.
هذه الأرقام المستفزة تذكرها الصحف وترددها الأخبار، وقد يقول قائل: إن كرة القدم هى المتنفس الوحيد للشعب الغلبان، وإن الأندية هى التى تتحمل هذه المبالغ الطائلة، وإن الناس بتنبسط لما تتفرج على كورة !.. أما القول بأن الكرة هى المتنفس الوحيد للشعب فهو مردود عليه؛ بأن هذا الوضع يسود فى عهود الضعف والقهر والتخلف، حين تستغل الدولة كرة القدم لإلهاء الناس عن واقعهم فيلتهون، ويصبح جُل همهم الفرجة على المباريات والمكسب والخسارة، بينما لا تضيف هذه الفرجة إليهم شيئا، ولا تغير من واقعهم الذي يعيشون، فهى مجرد مضيعة للوقت والجهد والمال، والأندية التابعة لوزارة الشباب والرياضة تحصل على هذه الأموال الطائلة من الناس، وتوجه اهتمامها ومعظم إنفاقها إلى كرة القدم، وتهمل اللعبات الأخرى، فتدهور مستوى الأداء المصرى فى كل الرياضات، ولا عجب .
فالشعب المصرى يمارس رياضة التفرج على كرة القدم فى التلفزيون، ولا عزاء لأبطال كأس العالم 2012 والأعوام التى سبقته فى الاسكواش،
إن المجتمع السويّ يجب أن تسمى الأشياء فيه بمسمياتها الحقيقية، لتأخذ في واقعه حجمها الطبيعى، فالفوز فى مباراة ليس نصرا لمصر، لأنها ببساطة مباراة وليست معركة، ولاعبو كرة القدم هم لاعبون، ويجب أن تكون رواتبهم على قدر ما ينتجون أو ما يقدمون لمجتمعهم، ولا يجب أن يسموا أبطالا فيتقاضوا هذه الملايين.
وكذلك الممثلون والمغنون والرقاصون، والمذيعون والإعلاميون والإعلانيون، يتلقون الملايين نظير أفلامهم ومسلسلاتهم، وبرامجهم ووصلاتهم، وإعلاناتهم وتفاهاتهم، بينما أطباء البلد وعلماؤها وصفوة رجالها الذين أفنوا أعمارهم دراسة وتعليما وتدريبا يعيشون على خط الفقر وتحته، وأفتى بعض رجال الدين أن منهم من يستحق الزكاة !
الرئيس مرسي والدكتور قنديل.. إن أحوال مصر تتطلب منا وقفة مع أنفسنا، فمصر لا تحتاج إلى مباريات للكرة يلهى بها الناس عن واقعهم، ولكنها تحتاج إلى العمل المنتج وبذل الجهد والعرق لرفعة شأنها، لا تحتاج إلى التهريج والانبساط والفرفشة، وإنما إلى الجد والاجتهاد والتفانى، لا تحتاج إلى مطربين وممثلين ورقاصين يقدمون الرقاعة والمجون والتخلف بعيدا عن الفن الحقيقي، بل تحتاج إلى العلماء والمخترعين والموهوبين الجادين ليحلقوا بها فى سماء العلم والتقدم والحضارة والفن المبدع البنّاء، لا تحتاج إلى امتداد الظلم الواقع على أهلها منذ عقود.
وإنما تحتاج إلى مراجعة المظالم لينال كل ذى حق حقه على قدر عطائه، لا على قدر ما يمكن أن يجتذب من إعلانات، أو ما يوسِّط من محسوبيات، تحتاج إلى تحديد الحد الأقصى للأجور أولا، ثم يأتي بعده تحديد الحد الأدنى، تحتاج إلى ترشيد إنفاق المليارات على مرتبات المستشارين، وتوجيهها إلى المكافحين المتعلمين المطحونين، من الأطباء والمعلمين والجامعيين بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم، إعلاء لقيمة العلم والجد والإنتاج الهادف.. ساعتها.. وساعتها فقط سنعيد إليها ما ضاع منها ومنا.. واسلمي يا مصر.