لم تخرج أمى المريضة البالغة من العمر 75 سنة من بيتها فى العشر سنوات الأخيرة إلا مرتين، مرة للتصويت للثورة مستمرة فى الانتخابات البرلمانية السابقة ومرة للتصويت لحمدين صباحى فى الانتخابات الرئاسية التى انتهت إلى حالة تشبه الحالة التى سادت قبل ثورة يناير، حيث عاد خيار الحزب الوطنى أم الإخوان؟ وكأن شهداء لم يضحوا وثورة لم تشتعل، وهذا طبعا ما أصاب كثيرا من الشباب بالإحباط لدرجة أن أحدهم اتصل بى بالأمس وقال لى بالحرف الواحد " لا أستطيع أن أتقبل ما حدث.. أخبرنى ماذا نفعل الآن ؟" الغريب أن أمى لم تنبس ببنت شفة عن الإحباط واليأس بعد النتيجة التى ربما سببت لها ألما أضعاف ما نشعر به نحن، وهى تلك السيدة التى لا تنام كل ليلة قبل أن تمر على كل القنوات الفضائية وحين أقول لها " نامى واستريحى يا أمى تقول وهى محدقة فى التلفزيون و ممسكة بالريموت كنترول " لا.. نم أنت... أنا لن أنام قبل أن "أطمئن على مصر " -بحد تعبيرها- وتذهب للنوم متأخرا بعد أن تنتهى برامج الtalk show ولكنها تصحو فى الصباح أكثر قلقا وتقول " أنها استمعت لفلان من اليسار ولفلان من الإخوان " ولعلان من السلفيين وأن كل واحد منهم يريد أن يقتطع لنفسه قطعة من مصر ويأخذها بعيدا، فأسألها وما الفرق يا أمى فى رأيك بينهم وبين النظام السابق ؟ فتقول " النظام السابق كان يريدها كلها لنفسه.. حية أو ميتة " لكن النتيجة واحدة أنتم تقتلونها كما كان يقتلها مبارك ورجاله والفرق أن كل طرف منكم يريد أن يقتل الجزء الذى يظن أنه نصيبه فيها بطريقته، أما مبارك فكان يقتلها بأكملها ليحتفظ بها محنطة فى باترينة " لا تتعجبوا من فصاحتها فهى قرأت كل جورج زيدان وكل طه حسين ومحفوظ وإدريس وجوركى، وهى التى مولت الأنشطة السياسية لأخيها ورفاقه بقروشها القليلة حيث كانت تنحنى بالساعات على ماكينة الخياطة وتمدهم بالنقود متخيلة أنها بذلك تعجل ببناء الاشتراكية فى مصر ، أصبحت أمى بعد إجراء عملية جراحية كبرى لا تذهب لدورة المياه إلا بصعوبة بالغة وبمعونة الأبناء والأحفاد، ولكنها جاهدت للذهاب لمقر لجنة الانتخاب مستندة إلى زراع أخى من جانب والعصا التى ورثتها عن أبيها من جانب آخر وسط إعجاب أهل قريتنا وإعجاب رجال الأمن والمشرفين على عملية التصويت، فقط لكونها تظن أن صوتها من الممكن أن يدفع الثورة والثوريين إلى الأمام رغم رفضها لفكرة الانتخابات من الأساس، أمى التى طاردت السلطات فى العهد الملكى أباها مدرس الإلزامى بتهمة الانتماء " لجماعة الإخوان المسلمين " واعتقلت السلطات فى العهد الناصرى أخاها بتهمة الانتماء للشيوعية، وحين ذهبت عند أبيها للولادة كما جرى عرف تلك الأيام و أنجبتنى وأسمتنى باسم الغائب فى سجن الواحات استنكر أبى وأهله من البدو الذين يمتلكون حقولا ولا يمتهنون الفلاحة ما فعلته وهددوها بالطلاق لأنهم لا يريدون لابنهم أن يكون شيوعيا مثل خاله المعتقل، أمى " أمال عبد الباقى" هى التى بكت عبد الناصر الذى اعتقل أخوها فى عهده وظلت تحمد سيرة ناصر ووطنيته ولا تتقبل كلمة تنتقص من قدره، بل وتقنعك أن نظام يوليو أضر بعبد الناصر كما أضرنا، فهى لا تخلط بين معاداة الديكتاتورية والتسلط وحبها للاشتراكية والإصلاح الزراعى والعمال والفلاحين، ولذلك قررت أن أحيل سؤال الشاب الذى ينتمى لشباب الثورة إلى أمى لأننى لا أجد إجابة عندى لسؤاله " ماذا نفعل الآن؟" أتعرفون ماذا قالت أمى ؟ قالت" لقد صوتُ لكم فى الانتخابات التى اخترتموها أو قبلتم بفرضها عليكم، رغم علمى أن الانتخابات بعد الثورة مباشرة لا تنتج سوى الوضع السائد، ألم يقل لكم أحد أن الثورة هى فعل استثنائى وأن الانتخابات هى مقبرة الثورة والثوار ؟ اذهبوا وتحدثوا مع الناس فالثورة مستمرة، ولكنها لن تستمر بكم وحدكم وإنكم إن فشلتم فى جعلها قضية معظم الناس فستعلقون على المشانق على أيدى سدنة رأس المال، فقلت لها " وماذا نفعل فى انتخابات الإعادة؟ هل نقاطعها؟ فقالت " قاطعوا الانتخابات إن أردتم ولكن لا تقاطعوا الإخوان لأن صراعكم مع الإخوان صراع حدود ينتهى بمعرفة كل طرف بحدوده و صراعكم مع النظام صراع وجود" لا ينتهى إلا بقضاء أحد الطرفين على الآخر.