دعنى أخمن ماذا سيكون شعورك عندما تلمس بيديك فى أقاصى الأرض ملمسا قطنيا ناعما لقميص فاخر توشك أن تشتريه فتفاجأ بغلو ثمنه وإذا بالبائعة تفسر لك السبب بأنه مصنوع من القطن المصرى، رغم أنه يباع فى متجر أمريكى شهير. لابد أن شعورا كبيرا بالفخر سيتسلل إلى نفسك مثلى وهو نفس الشعور الذى سيتولد من جديد عندما تقرأ فى مطبوع دعائى لشركة بواخر سياحية عالمية تدعوك لتجربة إحدى الرحلات على متنها وتتفاخر بأن كل مفروشاتها فى غرف النوم تضمن لك الراحة الأكيدة لأنها مصنوعة من القطن المصرى الفاخر.
الحقيقة تملأنى هذه الأمور بالفخر ببلدى وبمنتجها من الذهب الأبيض الذى يعتبر من أجود أنواع القطن طويل التيلة فى العالم، لكنى فى نفس الوقت أتعجب بعض الشىء لأنى لم أشعر فى السنوات الأخيرة بجودة منتجاتنا القطنية ، بل أحيانا كنت أجد عيوبا صناعية وخشونة فى بعض الملبوسات جعلتنى أحيانا ألجأ لبدائل أخرى من منسوجات مخلوطة بألياف وخيوط أخرى بدلا من تلك المصنوعة من القطن الخالص، وربما يفسر ذلك بأن القطن الجيد كان يٌجنب للتصدير أما الأقل جودة فيترك للاستهلاك المحلى.
لذلك فالمتوقع أن تكون سلعة إستراتيجية كهذه على رأس أولويات اهتمام الاقتصاد المصرى، خاصة وأن مصر تبنت زراعة القطن فى القرن التاسع عشر عندما أدخل محمد على باشا زراعته وشيد المصانع لنسجه، والمحالج لفصل البذرة عنه واستخراج زيوتها، وكانت فرنسا فى ذلك الوقت من أكبر الأسواق التى تتلهف على أقطاننا المصرية.
كان من المتوقع لدولة دخلتها مثل هذه الزراعة والصناعة القائمة عليها مبكرا أن تصبح الآن فى مكانة متقدمة من حيث جودة الانتاج والقدرة على تطويره وتسويقه عالميا ولكن من المحزن حقا بعد مرور كل هذه السنين أن نجد تراجعا فى درجة جودة القطن المصرى وتدهور صناعته وتخاذلا فى تسويقه عالميا.
لعلك سمعت عن أزمة القطن الذى بدأت منذ بضعة الشهور وتكدس كميات هائلة منه لدى مزارعى القطن فى مصر وهم ينتظرون بيعه بسعر مناسب بعد أن تكلف كل منهم الجهد والمشقة والأموال فى زراعته، فيأتى بعد ذلك تجار القطن ليشتروه بثمن بخس، فيرفض المزارعون بيعه لأنه أقل بكثير من ثمن تكلفة زراعته، وللأسف لم يستجب التجار لقرار الجكومة بأن يكون ثمن القنطار الواحد ب1800 جنيه تشجيعا للفلاحين على زراعة القطن حيث اصر التجار على عرض نصف هذا الثمن تقريبا.
لم يكن مقنعا تعلل الحكومة بأن السبب فى الأزمة هو ارتفاع أسعار القطن المصرى تبعا لأسعار السوق العالمى، مما أدى إلى انخفاض الطلب على القطن المصرى !!! ولا تعللها بأن الظروف الأمنية غير المستقرة أدت إلى تراجع الإقبال على شراء القطن المصرى عالميا بدعوى أن المستوردين الأجانب يتحسبون من تأخر طلبيات القطن أو إلغائها نتيجة لهذه الظروف !!! وعلى المستوى المحلى فإن مصانعنا ليست مجهزة للتعامل مع الأقطان المحلية طويلة التيلة وإنما اعتادت على تصنيع القطن قصير التيلة المحلى أو القطن المستورد متوسط التيلة !!!
هناك من يرى أن زراعة وصناعة القطن قد تدهورت فى عهد النظام السابق ، وقيل الكثير عن الإهمال الذى تعرضت له زراعة وصناعة القطن على يد النظام السابق، من عدم الاهتمام بتوعية المزارعين وعدم توفير البذور الجيدة، و خلط البذور أحيانا مما أثر على جودة المحصول، وغلق بعض المحالج التى كانت توفر زيوت مصرية خالصة فى حين لجأنا إلى استيراد الزيوت الإسبانية والماليزية بعد أن كانت مصر تتميز بزيوتها من بذور القطن والكتان دائما. وذكر التقرير ربع السنوي للقطن الذي يصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري إن حجم الصادرات المصرية من القطن، سجلت في الفترة من سبتمبر وحتى نوفمبر 231.3 ألف قنطار متري مقابل 267.6 ألف قنطار متري للفترة ذاتها من الموسم السابق. دولة مثل مصر بدأت صناعة القطن فى هذا القرن التاسع عشر،أى منذ نحو مائتى سنة كان من المفروض أن تكون رائدة فى هذه الصناعة التى بدأتها وأتقنتها، ولكن السياسات السابقة أتت على صناعة القطن فى مصر وكادت أن ترديها. المشكلة ليست فقط فى تكدس محاصيل القطن لدى المزارعين هذا العام، ولكنها أيضا تتمثل فى الانخفاض المتوقع حدوثه للمساحة المزروعة من القطن فى العام التالى، فالمزارع الذى تكبد العناء والمشقة والمال الكثير فى زراعة أرضه قطنا، ربما لا يكرر هذه التجربة مرة أخرى حتى يتفادى خسارته الفادحة من بيع محصول القطن بما يقل عن تكلفته كما حدث هذا العام، أو يتفادى خسارته عندما يتركه مخزنا مكدسا أمام عينيه حتى يتلف، خاصة وأن زراعة محاصيل كالبطيخ والفواكه أسهل بكثير وأقل فى التكلفة وبذلك تتراجع نسبة زراع سلعة استراتيجية هامة لبلدنا بدلا من تنميتها و تطويرها.
هناك بعض القرارات التى اتخذها وزير الزراعة للخروج من هذه الأزمة منها قراره بوقف استيراد القطن، فقد كان النظام السائد هو تصدير القطن الفاخر طويل التيلة ومتوسط التيلة، والاعتماد فى الصناعة المحلية على نسبة أقل جودة من القطن المحلى قصير التيلة إلى جانب الأقطان المستوردة وهو ما كانت تعتمد عليه مصاتع الملابس فى مصر فى السنوات الأخيرة مما يبرر رداءة منتاجاتنا القطنية فى السوق المحلى.
وهناك بعض المقترحات لتحسين الوضع أوجزها كما يلى : - 1- الاهتمام بزراعة القطن وغيره من المحاصيل الهامة للاقتصاد المصرى كالقمح والذرة وقصب السكر ودعمها من قبل الحكومة كما تفعل كثير من الدول كأمريكا والهند لحماسة سلعها الاستراتيجية، وتوفير بذور جيدة ودورات تدريبية وتعليمية للمزارعين فى أماكنهم للتعريف بكيفية تحسين انتاج المحصول. 2- الاهتمام بتطوير الصناعات القائمة على هذه السلع الاستراتيجية من إنشاء مصانع وشراء آلات حديثة وصيانة دورية ورفع مستوى المهنى للعامل والاهتمام بتحسين وضعه الاجتماعى. 3- يجب أن ينتهى دور المزارعين عند جنى المحاصيل فقط وتعبئتها، وتتولى الحكومة باقى المهام من تخزين وتسويق لهذه المحاصيل وألا يترك مصير هؤلاء معلق برغبة كبار التجار فى الشراء أم عدم الشراء. 4-التسويق له أسس ولابد من دراسات لمعرفة احتياجات السوق المحلى والعالمى ووضع خطط للتسويق العالمى و تخفيض أسعار هذه السلع إذا كان مبالغا فيها فهذه أبسط نظريات العرض والطلب. 5-ربط زراعة وصناعة هذه السلع الاستراتيجية بالتعليم الصناعى والزراعى فى المدارس لإخراج أجيال مؤهلة للعمل فى هذا المجال والارتقاء به. 6- الاهتمام بتصنيع نسبة كبيرة من هذه السلع الهامة فأسعار تصديرالمحاصيل الخام لا تقارن بأسعارها بعد تصنيعها فى شكل سلع هذا فضلا عما ستخلقه من فرص عمل كثيرة لأبنائنا. هل سيأتى يوم يعود فيه موسم جنى القطن عيدا سعيدا للفلاح، بعد أن مثل له اليوم هما ثقيلا وعبئأ يخشى أن يعاود الإقدام علي تحمله ؟ هل سيأتى يوم تتبدل فيه إمارات الحسرة بابتسامات الفرح فى يوم حصاد القطن الذى طالما صورته الشاشات الفضية فى أفلامها، وتغنى به زمنا شعراؤنا؟ [email protected]