المنظر كالآتي: رجل نائم على سرير معدني متآكل القوائم، غطت (الحكيمة) نصفه السفلي بملاءة بيضاء مهترئة، وكشف بطنه المنتفخة التي برزت فيها الأوردة البطنية، وقد بدا على وجهه الانكسار والهمّ، وارتسمت عليه علامات الألم الذي لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد، والتف حوله ثلاثون طالبا وطالبة يلبسون (البلاطي) البيضاء، يتقدم كل منهم (ليفعّص) في بطنه عدة مرات، ويتراجع ليتقدم غيره ليأخذ دوره في فحص بطن المريض (المجاني) ! يحدث هذا في أقسام المستشفيات الجامعية؛ غير ذات الطابع الخاص، فالمرضى في هذه الوحدات قادرون على دفع تكاليف العلاج والعمليات، والإقامة والفندقة والإكراميات، فلا يجرؤ طبيب حديث التخرج؛ أو حتى قديمه؛ على (التفعيص) في أحدهم ليتعلم من علامات مرضه، فهو مريض (دافع)، لا يجوز الانتقاص من كرامته، أو جرح كبريائه، خليك في المجاني واتعلم عليه !
فإن أردت - كطبيب – أن تتدرب على الأطفال؛ فاذهب إلى مستشفى أبو الريش، العيال هناك كتير في العيادات والأقسام، إعمل اللي انت عايزه فيهم، لكن.. إبعد عن اللي أهلهم دافعين.. فإن كنت في قسم النساء والتوليد؛ وأردت أن تجرب توليد امرأة، روح وجرب حظك، يمكن تيجي واحدة غلبانة في الاستقبال تولّدها، وإن حدثت مشكلة في الولادة (تتلحق)، وحتى لو مشكلة كبيرة؛ مش مهم، ما هي مش دافعة.. فإن أردت التدرب على الحقْن في الوريد؛ سهلة.. إذهب إلى المعمل وهناك ستجد المرضى الغلابة بالعشرات، إتعلم في أوردة ذراع من تشاء منهم، لكن مريض (العلاج بالأجر) لأ ! الخلاصة أن الطبيب المصري يتعلم (في) المريض الغلبان الذي لا يستطيع تحمل نفقات العلاج.
هذا المشهد يتكرر في مستشفيات مصر الجامعية التعليمية منذ أطلقت عليها هذه التسمية، فالمريض الذي يُعالج بالمجان، أو تجرى له عملية جراحية دون أن يدفع تكلفتها نقداً لعدم قدرته؛ يجب عليه أن يدفع الثمن مقتطعا من كرامته، والثمن أن يتعلم (عليه) طلبة الطب، والأطباء حديثو التخرج من كلية الطب التابعة لها المستشفيات المسماة بالجامعية أو التعليمية، وأكبرها وأعرقها بالطبع مستشفيات قصر العيني.
أعرف السؤال الذي يراود حضرتك الآن.. كيف يتعلم طلبة الطب والأطباء في كليات الطب في دولة كأمريكا أو بريطانيا؟ هل يتعلمون على المرضى مثلنا ؟ وأجيبك.. بالطبع لا تتم العملية التعليمية للطبيب إلا بأن يطبق ما تعلمه نظريا على المرضى، أي التدريب العملي الإكلينيكي، وجامعات الطب في أمريكا يجب أن تضم مستشفى لعلاج المرضى تحت مظلة التأمين الصحي، يعني كلهم تدفع جهة من الجهات تكاليف علاجهم، وتعليم طلبة الطب والأطباء على المرضى لا دخل له إطلاقا بأحوال المرضى المالية، فهم ببساطة مرضى؛ وقّعوا عند دخولهم إلى المستشفى على موافقة مكتوبة تحفظ حقوق الكل؛ أطباء معالجين ومرضى ومتدربين.
وأعود لأتساءل.. هل من المقبول أن يسدد المصري فاتورة علاجه من كرامته ؟
إن سبب هذه المشكلة في مصر، يكمن في العلاقة الغامضة المبهمة بين كلية الطب والمستشفى الجامعي، فالهيكل الوظيفي للكلية يختلف تماما عنه في المستشفى، والهدف من إنشاء هذه يختلف تماما عن الهدف من إنشاء تلك.. كيف ؟
كلية الطب – في أي جامعة – أنشأت لتعلّم طلابها العلوم الطبية؛ بدءا بالتشريح ووظائف الأعضاء في السنة الأولى، وصولا إلى الباطنة والجراحة في السنة النهائية، ثم بعد أن يتخرج الطلاب؛ تنقطع علاقتهم بالكلية مؤقتا لمدة عام، لا يحصلون على ترخيص بمزاولة المهنة من وزارة الصحة إلا بعد أن يمضي المتخرج سنة التدريب (الامتياز) في مستشفى واحد أو في عدة مستشفيات جامعية أو تعليمية أو تابعة لوزارة الصحة، ثم تعود العلاقة مع الكلية مرة أخرى ليتقدم الطبيب لتسجيل الماجستير في التخصص الذي يريده، وبعده يسجل لدرجة الدكتوراه في الكلية، إذن.. فعلاقة الطالب والطبيب بالكلية هي علاقة علمية أكاديمية، الهدف منها تلقي العلم من أساتذة الكلية؛ كل في تخصصه، في قسمه، في كليته، ليحصل الطالب على بكالوريوس الطب والجراحة، ثم الماجستير، ثم الدكتوراه.
أما المستشفى – أي مستشفى – فقد أنشأت لتقدم خدمات التشخيص والعلاج والتأهيل للمرضى الذين يرتادونها، بمقابل أو دون مقابل يدفعه المريض، لكن يجب أن يكون هناك من يدفع تكلفة العلاج؛ كالتأمين الصحي أو جهة العمل أو الدولة، أو أو.. المهم أن هناك من يدفع، وعلاقة العاملين في المستشفى من الأطباء والتمريض والأطقم الفنية والإدارية والمعاونة بالمستشفى؛ هي علاقة عمل مقابل أجر، فهم يقدمون خدمات العلاج والتشخيص والتأهيل للمرضى الذين يرتادون المستشفى، دون تفرقة بين المرضى على أساس قدرتهم المالية، أما عن تعلّم طلبة الطب والأطباء على المرضى؛ فهو يتم على كل المرضى شريطة علمهم وموافقتهم وتشابه ظروفهم من حيث تمويل العلاج لوجود الجهة التي تتولى الإنفاق على صحة المواطنين.
وبرغم وضوح دور كلٍ من كلية الطب والمستشفى، فقد اختلط الدوْران في الحالة المصرية لارتباطهما الوثيق بموضوع الدور؛ المرض والمريض، وفي حالة كقصر العيني، وغيره مما يشبهه تعليميا وجامعيا؛ لا تستطيع التمييز بين الدورين، فأساتذة الكلية يعملون في المستشفى، وأطباء المستشفى مسجَّلون في الكلية ليحصلوا على مؤهلاتهم العلمية معتمدين على الحالات التي يمكنهم تدبيرها من مرضى المستشفى كموضوعات لرسائلهم، والمريض مجبر على التعاون لأنه لا يدفع مقابل علاجه، فاختلط الأمران، فقر المريض وعوزه وحاجته إلى العلاج دون أن يدفع هو تكاليفه، وحاجة الأطباء إلى التدريب على مرضى حقيقيين، ليسوا متاحين إلا في الأقسام المجانية، أما في الأقسام والوحدات ذات الطابع الخاص، التي يهدف إنشاؤها إلى الربح؛ فمرضاها لا يدخلون في هذا المستوى من المرضى لأنهم قادرون، فلا تُكسَر عيونهم من أجل العلاج.. واسلمي يا مصر.