هناك أربع طرق شهيرة ومعروفة ومحفوظة وتاريخية يمكن أن يصل بها غبى أو متغاب إلى كرسى الحكم فى مصر 80 مليونا دفعوا ثمن هذا الكتاب لكنهم لم يقرؤوه!
الشعب المصرى بكل تياراته، وفئاته، وطوائفه، دفع الثمن.
البعض دفع حياته، والبعض دفع حريته، والبعض دفع عقله، والبعض دفع عمله، والبعض دفع عزلته، والبعض دفع غربته، والبعض دفع آماله، والبعض دفع ماله.
الكل دفع الثمن، لكن شيئا لم يتغير؛ لأن القانون يحمى المغفلين إذا صاروا حكاما!
وقتها تصبح أدلة الإدانة هى نفسها حيثيات البراءة، ويخرج المتهم من القضية لعدم كفاية الأدلة، ويدفع المجنى عليه أتعاب المحاماة، رغم أن الجميع كان شاهدا على ما حدث.
لكنها ضريبة الغباء السياسى الذى ظل حاكما ومتحكما ومسيطرا ومتصدرا المشهد السياسى بطول التاريخ وعرضه، ورغم الحديث الدائم عن نظرية المؤامرة والطرف الثالث، فإننى بعد بحث طويل وقراءة متأنية فى كتب التاريخ تأكدت أن ظهور الطرف الثالث سببه غباء الطرف الأول، وأنه إذا كانت هناك مؤامرة لما كانت تستطيع أن تحقق أهدافها لولا «الغباء السياسى».
لكن السؤال الذى يطرح نفسه دائما هو كيف يصل الأغبياء والمتغابون إلى كرسى الحكم فى مصر بهذه السهولة على مر العصور؟
والجواب: هناك أربع طرق شهيرة ومعروفة ومحفوظة وتاريخية يمكن أن يصل بها غبى أو متغاب إلى كرسى الحكم فى مصر.
1- التوريث: وله طريقتان:
- التوريث المباشر: ويحدث فى النظام الملكى عندما يكون الغبى سياسيا هو الوريث الشرعى للحكم، وبالتالى يتسلم الحكم بسهولة، دون أن تكون له أى خبرات أو مهارات تجعله يستطيع إدارة شؤون البلاد، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة وبارزة منذ أيام الفراعنة، ومرورا بفترة الخلافة، ووصولا إلى حكام أسرة محمد على.
- التوريث غير المباشر: ويحدث فى النظام الجمهورى، حيث يقوم رجال الرئيس الذين يرون أن مصلحتهم تقتضى أن يصبح نجل الرئيس المتوفّى رئيسا، فيقومون بتزييف إرادة الشعب، وتزوير الانتخابات، وعادة ما يكون هذا الوريث الذى يجمع فى أغلب الأحيان بين الضعف والغباء هو كلمة النهاية فى هذه الحقبة التاريخية.
2- النائب: ويختاره الحاكم بنفسه ليكون خليفته، ويعيّنه نائبا تكريما على إخلاصه له طوال حياته، وغالبا ما يأتى هذا الشخص خلفا لشخصية عظيمة نالت ثقة الناس وحققت أحلامهم وسهرت على راحتهم وجعلتهم مطمئنين، لكن بمجرد رحيل هذا الحاكم الاستثنائى يصير الكرسى واسعا على من يأتى خلفا له، وهنا تظهر قدرات النائب الحقيقية، وأن مكانته لم يصل إليها إلا باعتباره خادما مطيعا لسيده، وهذا ما حدث عندما قام القائد العظيم صلاح الدين الأيوبى باختيار الملك العزيز بالله، لكى يخلفه على العرش، وكان أسوأ شىء فى تاريخ صلاح الدين، فقد حاول خليفته هدم الهرم الأصغر وأنفق فى ذلك أموالا طائلة لاعتقاده أن تحت الهرم كنزا ثمينا من الذهب، ولم يكتف بذلك، بل إنه أباح الدعارة وتدخين الحشيش وتفرغ للنساء.
3- بعد ثورة لم تكتمل: هذه تعد أغرب حالة فى وصول الغبى إلى كرسى الحكم، فعادة بعد الثورات التى لم تكتمل أهدافها، يظهر اليأس وتتفشى روح الإحباط بين الناس وتنتشر الفوضى، ويصاب الناس بحالة من الخوف والفزع تجعلهم يرضون بأى شخص يوفر لهم الأمن دون النظر إلى تاريخه أو سلوكه أو أفكاره، وهنا يظهر شخص لا يمتلك أى مواهب أو قدرات، سوى أنه صاحب خلفية عسكرية فيوافق الناس عليه طلبا للأمن والأمان الذى يكتشفون بعد فترة أنه كان أمانا وهميا وواهيا!
4- الرحيل المفاجئ للرئيس: بمعنى أن يموت الرئيس دون أن يكون مَن حوله قد اتفقوا على مَن يخلفه، وهنا يخرج من الكواليس فجأة شخص لا أحد يستشعر الغدر نحوه، بل يظن الجميع أنه غبى، وتسهل السيطرة عليه، لكنه فى حقيقة الأمر متغابٍ، وينتظر اللحظة المناسبة ليقفز فوق كرسى السلطة، وهو غالبا إذا صعد يصبح نزوله أقرب إلى المستحيل، ولدينا فى ذلك أمثلة كثيرة، لعل أبرزها الرئيس الراحل أنور السادات الذى اختاره الزعيم جمال عبد الناصر ليكون نائبا له، وكان كل من حول عبد الناصر يتعاملون معه باعتباره لا يفهم شيئا، ونفس الشىء ينطبق على الرئيس المخلوع حسنى مبارك الذى لم يكن لديه أى طموح أكثر من أن يكون سفيرا لمصر فى لندن، لكن السادات رأى فيه صورة الموظف الذى يُنفّذ أوامر رئيسه دون نقاش، ويظهر ذلك بوضوح فى حوار السادات مع الكاتب الصحفى عبد الستار الطويلة، حين سأله عن سر اختياره لمبارك نائبا له فقال: مبارك لديه ثلاث مزايا:
الأولى: أنه لا يملك تاريخا سياسيا، ومن ثم فهو وجه جديد.
الثانية: أنه طيار مستقيم أخلاقيا وجندى مخلص ووطنى.
الثالثة: فهى أنه رياضى يحافظ على صحته.
السادات كان واضحا، فلم يقل إن مبارك يمتلك قدرات عقلية عالية أو ذكاء لافتا أو حتى علما أو موهبة أو كفاءة فى القيادة أو مهارة فى الإدارة، لكنه اختاره ليكون موظفا عنده، لكن بغياب السادات وجد مبارك نفسه الرجل الأول، لكن أهم ما تعلمه مبارك من السادات هو تلك الحكمة الخبيثة التى تقول «عليك أن تظل غبيًّا فى نظر الناس حتى يتعاطفوا معك ويعطفوا عليك، ولا تستفز من حولك ولا تشعرهم بوجودك حتى تصعد إلى كرسى السلطة فى هدوء ودون الدخول فى نزاع مع أحد، ثم بعد ذلك حاول أن تؤكد فى كل مناسبة أنك تسير على خطى من سبقوك وتبدى اهتماما شديدا وحبا جارفا لمن قبلك حتى تستقر فى موقعك ثم تنقلب على الجميع».
الشىء الوحيد الذى لم يتعلمه مبارك هو: ماذا يفعل لو قامت ثورة ضده وطالب الناس بإسقاطه؟! فهو ككل الحمقى من الطغاة لم يفكر فى هذا اليوم مطلقا، فقد تسلل إلى السلطة مدعيًا الغباء، وخرج منها، وقد أعماه الغباء والعناد.
لكن ليس مبارك وحده الذى أعماه الغباء، فكُتب التاريخ تمتلئ بنماذج الحمقى من الحكام!
1- الخليفة الحمار!
هكذا تجد اسمه فى كل كتب التاريخ!
فهو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية الحمار.
آخر خلفاء بنى أمية الذى تولى الحكم لمدة خمس سنوات فقط انهارت بعدها الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية، بعد أن انهزم مروان الحمار أمام العباسيين فى معركة «الزاب»، وهرب نحو الصعيد، فتعقبه عسكر بنى العباس وألقوا القبض عليه فى قرية أبو صير، إحدى ضواحى الجيزة، وقتلوه شر قِتلة، وطرحوا جثته فى العراء حتى أكلت منها الذئاب والكلاب.
و«الحمار» لم تكن صفته وإنما كان لقبه، فقد كانت عادة العرب أن يُلقب كل مئة عام «حمار»، فلما قارب ملك آل أمية مئة سنة، وجاء مروان فلقبوه بمروان الحمار، خصوصا أنه كان مشهودا له بالصبر الشديد على مواصلة القتال مثل الحمار.
لكن هناك سببا آخر جعل هذا الاسم مقترنا به طوال هذه القرون، وهو أنه حرّم لعب «الشطرنج»، وأصدر أمرا بعدم ممارسة هذه اللعبة، وحدد ثلاث عقوبات لمن يمارسها وهى:
1- العقوبة الجسدية.
2- إطالة فترة سجن المحبوس.
3- حرمان من يلعب الشطرنج من حقه فى أموال الدولة!
والسبب فى ذلك أن الخليفة لاحظ أن لعبة الشطرنج كانت واحدة من أسباب الثورة على بنى أمية، وأن أغلب من يمارسونها من الثوار، ومن بينهم سعيد بن جبير الذى اشترك مع عبد الرحمن الأشعث فى الثورة ضد عبد الملك بن مروان، وكان يستخدم الشطرنج فى إعداد خطط مواجهة الحاكم، وبسببها كان يجيد الكرّ والفرّ فى المعارك.
هذا قدر مصر دائما، فبعد أن شهدت ولاة فى مرتبة عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى السرح ومحمد بن أبى بكر، وعمر بن عبد العزيز، جاء إليها مروان الحمار، وكأنها ستصير عادة الحكم فى مصر، فكلما تولى الأمر فيها رجل قوى، خلفه على العرش رجل يتصف بالضعف والحمق.
لكننا لو وضعنا كل أشكال الغباء الذى مارسه الحكام فى كفة والغباء الأمنى فى كفة، لرجحت كفة الغباء الأمنى، وانكسر الميزان، والدليل ما حدث مع خالد سعيد.
2- خالد سعيد
كانت مصر يقظة فى تلك الليلة -على غير عادتها- رغم أن الساعة كانت قد تجاوزت الثانية صباحا.
فنحن فى يوم السادس من يونيو سنة 2010، وهذا هو اليوم التالى للذكرى الثالثة والأربعين للنكسة، لكن يوم السادس هو دائما يوم النصر.
فى هذا اليوم، وتحديدا فى الإسكندرية التى لا ينام فيها أحد فى الصيف، ذهب شاب عمره ثمانية وعشرون عاما ليجلس فى أحد مقاهى الإنترنت المجاورة لبيته بمنطقة كليوباترا، وفجأة دخل مقهى الإنترنت اثنان من المخبرين تابعان للمباحث، أرادا تفتيشه بموجب قانون الطوارئ، لكنه رفض، وسألهما عن سبب تفتيشه أو إذن نيابة، فكانت الإجابة بضربة على وجهه البرىء، تلتها ضربات من كل حدب وصوب، وفى كل مكان من جسده النحيل حتى فارق الحياة.
ثلاثة أيام فقط، عرفت بعدها مصر، من أقصاها إلى أقصاها، اسم شهيد جديد لكنه مثلما رفض أن يظهر بطاقته دون إذن من النيابة، رفض أن يكون كسائر الشهداء، فكانت وفاته سببا فى حياة بلد، ظن الجميع أنها ماتت من كثرة ما نامت.
إنه خالد محمد سعيد الشهيد الذى كانت مصر يقظة يوم وفاته، ووقفت ضد القتلة الذين قادهم الغباء وحرّكهم الكِبر والعناد، فكانت قسوتهم المفرطة وغرورهم اللعين واحدا من أهم أسباب إيقاظ روح الثورة عند المصريين.
لكن خالد دفع أغلى ثمن للغباء، فكان يمكن للقتلة أن يكتفوا بضربة واحدة موجعة و«ضربة تفوت ولا حد يموت»، أو حتى يضربوا بذكاء كعادة أغلب محترفى التعذيب، فلا يتركون أثرا، لكن الغشاوة والغباوة كانت قد أعمتهم، وظنوا (ككل القتلة) أن الجريمة ستؤيَد ضد مجهول، أو ضد القتيل نفسه!
لكن مصر كانت قد بدأت تنهض من سباتها الطويل، ففى التاسع من يونيو كانت قصة خالد فى كل مكان، لكن فى اليوم التالى كانت الحماقة فى قمتها، فتم إخلاء سبيل المتهَمين، فبدأت موجة من الاحتجاجات تتوالى فى الإسكندرية، فقرر النائب العام المستشار عبد المجيد محمود (وقتها)، إحالة التحقيق إلى نيابة استئناف الإسكندرية، وندب لجنة ثلاثية من مصلحة الطب الشرعى بالقاهرة برئاسة كبير الأطباء الشرعيين.
لكن فى يوم 23 يونيو كان الغباء قد وصل مداه، حين أعلن المحامى العام لنيابة استئناف الإسكندرية فى مؤتمر صحفى براءة مخبرَى الداخلية، وأوضح أن سبب الوفاة كان نتيجة إسفكسيا الاختناق بانسداد المسالك الهوائية بجسمٍ غريب عبارة عن لفافة بلاستيكية تحوى نبات البانجو المخدر!
إذن لم يكتف زبانية حبيب العادلى بأن تُحفَظ القضية، وتُسجَل ضد مجهول، لكنهم قرروا أن يصلوا بالحماقة إلى أقصى مدى لها وأن يجعلوا الضحية مذنبا، وطبقا لهذا التقرير فإنه سيتم استدعاء أسرة خالد سعيد للتحقيق معها فى النيابة بتهمة البلاغ الكاذب!
هنا وصلت مصر عند مفترق الطرق، فالغضب وصل إلى ذروته، ولم يعد هناك سبيل سوى خروج المصريين إلى الشارع.
لكن فى هذا التوقيت كان الجميع يظن أن الشعب مغفل، ولن يثور رغم فجاجة ما يحدث.
3- الجمهور المغفل عايز كده!
بالغباء وحده يمكن أن يصنع الكوميديان مجده.
ولعل محمد سعد هو أصدق دليل على ذلك، فهو يعتبر نفسه فلتة عصره، وأهم كوميديان فى جيله والأجيال التى سبقته، ولا يريد أن يواجه نفسه بالحقيقة التى يراها الجميع بوضوح، وهى أنه صاحب موهبة كبيرة وعقل صغير، وأنه يسير بخطى ثابتة نحو نهاية مبكرة -قد تعيد إليه صوابه- فهو لا يتعلم ويظن أنه عالم، ولا يفكر ويتصور أنه مفكر، رغم أن الجماهير من الإسكندرية إلى أسوان، تعرف أنه لا يقدم سوى شخصية واحدة لا تتغير، ونمط ممل ومكرر، ويصر على الاستسهال، والابتذال، وكلما زادت شهرته تضاعف غروره، وزاد غباؤه.
لكن مشكلة محمد سعد أنه لا يصدق إلا نفسه ولا يسمع إلا صوته، فبعد أن برع فى أداء شخصية اللمبى ونجح بها، وصار نجما، فإنه لم يحاول أن يتقن غيرها، ولم يراهن على موهبته وقدراته، بل إنه بعد أن كان بطلا فى العمل أصبح يرى أنه العمل نفسه، وعلى الجميع الخضوع لرأيه ورؤيته بداية من الُمخرِج ومرورا بالمُؤلِف وحتى زملائه من الممثلين، وبالتالى لم يعد يعمل معه إلا أنصاف المخرجين والمؤلفين والفنانين.
إنها آفة شباك التذاكر الذى يظن محمد سعد أنه كل شىء، وأنه ما دام يحقق إيرادات فهو الأفضل، والأهم، والأنجح، ولا يشعر بهذا إلا لأنه لا ينظر حوله، ولا يشاهد منافسيه الذين تجاوزوه، رغم أنه كان يسبقهم حين كان مخلِصا لفنه وليس لشباك التذاكر، وبدلا من أن يصل إلى قمة المجد وصل إلى قمة الغباء من كثرة أدوار الغباء التى تركت بصمتها عليه.
والحقيقة أنه لا يوجد ممثل واحد ممن يزعمون أنهم كوميديانات، لا يلعب على تنويعات لقيمة العبيط الأبله المتخلف عقليا من محمد صبحى إلى محمد هنيدى، ومن سمير غانم إلى أحمد آدم، ومن عادل إمام إلى محمد سعد، فجميعهم إذا جردناه من شخصية العبيط الأهبل المتخلّف عقليا، فكأننا قطعنا عنه الكهرباء!
لكن محمد سعد وحده وقع أسيرا لهذه الأدوار، ولم يخرج منها، فأصر على تقديم شخصية واحدة فقط أصلها ثابت واسمها يتغير -أحيانا- من أجل تغيير «الأفيش»، فمرة يكون «اللمبى»، وأخرى «عوكل» وأحيانا «بوحة» أو «كركر» أو «كتكوت» أو «بوشكاش»، وعندما تضيق به الحال ويشعر أن الجمهور انصرف عنه يستعيد مرة أخرى اسم «اللمبى» بدلا من أن يستعيد محمد سعد!
إنه «محمد سعد اللمبى»، هكذا عرفناه، ناظر مدرسة «الجمهور المغفل عايز كده»، لذلك لا يؤمن بالنقد، وعندما اتهمه البعض بالديكتاتورية، وحب الظهور الدائم، واحتكار البطولة المطلقة كان رده: الجمهور هو صاحب الحكم فى مدى تفضيله للشخصية، وهل كانت سيئة أم لا؟
لذلك محمد سعد هو خير ممثل للنظام، رغم أنه لم تكن له أى علاقة مباشرة بالنظام، فقد بدأ رحلته نحو الشهرة بالصدفة، وذلك عندما ذهب علاء ولى الدين إلى المخرج شريف عرفة ليقترح عليه اسم زميله محمد سعد ليقوم بتقديم دور «اللمبى» فى فيلم «الناظر»، لكن المخرج رفض؛ لأنه اختار ممثلا آخر لنفس الدور، وهو محمد لطفى، إلا أن علاء لم ييأس، وحاول بكل الطرق إقناع المخرِج باختيار زميله محمد سعد، لأنه مش هيقدر يكسر بخاطره بعدما وعده، فوافق عرفة بعد إلحاح من علاء!
وظهر اللمبى، وتألق فى عام 2000، ذلك العام الذى انضم فيه جمال مبارك إلى الحزب الوطنى، وبعد عامين ققط أصبح محمد سعد بطلا لأول مرة فى فيلم «اللمبى» وحقق أعلى الإيرادات فى تاريخ السينما -وقتها- وصار نجم الشباك الأول، وتصدر الساحة الفنية.
فى نفس التوقيت بدأ جمال مبارك رحلة صعوده فى سلم الحزب -من أعلاه- وتوليه خطة أمين لجنة السياسات التى تولت «رسم السياسات» للحكومة و«مراجعة مشروعات القوانين» التى تقترحها حكومة الحزب قبل إحالتها إلى البرلمان.
مجرد صدفة، لم يتم الإعداد أو الترتيب لها، لكن تم استثمارها بالشكل الأمثل، وكلاهما استفاد منها، رغم أنه لا وجه للمقارنة بينهما، فالفنان محمد سعد صاحب موهبة حقيقية (حتى وإن فرط فيها)، وله جمهور كبير (حتى وإن قصّر فى حقه)، وقد صعد سلم النجومية بمفرده وبمجهوده وبعرق جبينه بعد رحلة طويلة من العناء، والاجتهاد، والإصرار، والتحدى، بينما صعد نجل الرئيس المخلوع إلى السلطة بفضل نفوذ وسلطان والده الذى ظن أنه دائم وأن من حقه أن يرثه.
لكن اللمبى وجمال مبارك كانا وجهين لعصر واحد، تعالى على الناس واعتبرهم مغفلين.
اللمبى لم يكن وحده فلا يوجد حاكم يصل إلى حد الغباء إلا إذا كان بصحبته رجل يرتدى عباءة الدين يروّج لخرافاته، ويخلع عليه صفة القداسة.
4- المجانين فى خدمة الحمقى
هل أخطأ الحسين؟
هل أخطأ حين خرج من بيته وحيدا أعزل ليواجه دولة بجيشها وجبروتها؟ هل أخطأ حين أغلق أذنيه عن نصح الناصحين له بعدم الخروج إلى العراق؟ هل أخطأ، لأنه لم يحفل بالقوة القاهرة التى لا تقاس إليها قوة الصحبة المعدودة من أهل بيته والنفر القليل من الرجال الذين صدَقوا ما عاهدوا الله عليه؟ هل أخطأ حين رفض الظلم؟ هل أخطأ حين رفض المساومة والمقامرة والمفاوضة؟ هل أخطأ حين قرر أن يستشهد؟ هل أخطأ سيدنا الحسين ابن الإمام على والسيدة فاطمة وحفيد رسول الله؟!
أعتقد لو أن سيدنا الحسين -رضى الله عنه- ذهب إلى أحد رجال الدين فى عصرنا لسمع فتاوى تدين ما فعله، وتضعه فى مصاف من ألقى بنفسه إلى التهلكة، لكن حفيد رسول الله لم يستمع إلى فتاوى أعوان الظالم، وهو الدرس الذى تعلمته السيدة نفيسة بنت سيدنا الحسن، فكانت تفتح أبواب بيتها أمام جموع المصريين، وقبل اندلاع الثورة بقليل كانت تحرّض المصريين على المقاومة ضد الظالمين والوقوف فى وجه الحمقى من الولاة وحكام الأقاليم، وعندما أبدى لها البعض عجزهم وضعفهم، قالت لهم: لم يكن الحسين إلا فردا واحدا أمام دولة غاشمة وملك عضوض، ولكنه لم يهرب ولم يستسلم.
لم تكتف السيدة نفيسة بالكلام، وإنما قادت ثورة الناس على ابن طولون لمّا استغاثوا بها من ظلمه، وخرجت إليه، ولما رآها نزل عن فرسه، فأعطته الورقة التى كتبتها وفيها «ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم ففسقتم، ورُدت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفاذة غير مخطئة لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظَلموا أىّ منقلب ينقلبون!».
هكذا فعلت السيدة العظيمة التى علّمت المصريين أن مقاومة الظالم لا تحتاج إلى جيوش، والوقوف ضد الطغيان لا ينتظر كشف حساب لموازين القوى، وقد سار على دربها كل مشايخ مصر الكبار وأصحاب الأضرحة الكبيرة والموالد المزدحمة، كانوا فى صف الجماهير ضد الحاكم والوالى وعساكر السلطان، وكلهم وبلا استثناء، ومن أول الإمام الشافعى وإلى الحسن الشاذلى والمرسى أبو العباس وسيدى أحمد البدوى، والشاطبى والقبارى وإبراهيم الدسوقى، كلهم قاوموا السلطة الغاشمة، وبعضهم اشترك فى محاربة الغزاة وقيادة المقاومة ضد الغازى الأجنبى.
لم يخطر ببال مشايخنا العظام أن من سيرتدون عباءتهم، ويدَّعون حبهم، سوف يحرِّمون الخروج على الحاكم الظالم، ويقفون ضد المظلوم، وينصرون القوى، ويوبِّخون الضعيف، وينافقون الرئيس، ويلعبون دور «المُحلل» الذى يُحلل للحاكم ما يريده، ويُحرِّم على خصومه ما لا يرضى عنه، ويبرر أفعاله، ويدافع عن جرائمه.
لكن تبقى أهم أكبر خدمة وهدية يقدمها من يرتدون عباءة الدين للنظم الغبية والقمعية هى أن يشغلوا الناس بتوافه الأمور، ويبعدونهم عن القضايا الكبرى حتى يصير المجتمع تافها وغبيا ومُغيّبا مثل من يحكمه.
وفى هذه الظروف تكثر الفتاوى الغبية، ومنها الفتاوى التى أصدرها أحد الشيوخ وحرَّم فيها على النساء والفتيات ملامسة بعض أنواع الخضراوات والفاكهة، مثل الموز والخيار بدعوى أنها ربما تؤدى إلى إغوائهن أو استثارة مشاعرهن! هذه الفتوى وغيرها ينطبق عليها ما قاله الصحابى الجليل عبد الله بن عمر «من أفتى فى كل ما يُسأل فهو مجنون».. وما أكثر المجانين الذين يعملون فى خدمة الحمقى من الحكام.