زمان قرأت مقالاً سياسياً للشاعر الراحل نزار قباني بعنوان "الكتابة عمل انقلابي".. ولقدم عهدي بما قرأت لم أعد أذكر إن كان العنوان وضع علي كتاب لنزار أم أنه ظل مجرد مقال.. كان كلام نزار عن تأثير الكتابة الذي يصل إلي حد تأثير الانقلاب أو الثورة معقولاً في زمان العذرية الفكرية. والسياسية.. أما اليوم فإن الكتابة عمل "كلابي".. وليست عملاً انقلابياً.. الكتابة نباح. ولكنه نباح كلاب لا تعض. لأنها بلا أسنان.. وحتي إذا عضت فإنها لا توجع لأن الناس فقدوا تماماً خلايا الألم والوجع.. وإذا عضت لا تدمي لأن الناس لم يعد عندهم دم. والكتابة في مصر وفي أمة العرب عموماً أصابها الخلل الذي أصاب كل شيء وانقلبت كما انقلب كل شيء فصار عاليها سافلها. أي صار الكُتَّاب أضعاف القراء.. كما صار الحكام أضعاف المحكومين.. والقائلون أضعاف السامعين.. ومن يفتون أضعاف من يستفتون.. ومن يجيبون أضعاف من يسألون.. والآلهة أضعاف العابدين.. وهذا الخلل أفقد الكلمة تأثيرها وقدرتها علي صنع التغيير إلا لقائلها. أو كاتبها. حيث تنتفخ جيوبه وأرصدته وينال النجومية والشهرة.. لكن القراء والسامعين لا يتغيرون. وتبقي مقاعد التلاميذ خاوية. بينما تزدحم المنصات بالأساتذة والمعلمين.. زمان كان الناس يشكون من أنهم جيل بلا أساتذة ولا قدوات.. واليوم أصبح الأساتذة علي قفا من يشيل. ولا يوجد تلاميذ.. وصار القدوات أكثر من الهم علي القلب. ولا يوجد من يقتدي. مصر فيها سبعون أو ثمانون مليون أستاذ. وخمسة ملايين تلميذ.. ثمانون مليون حاكم وخمسة ملايين محكوم.. ثمانون مليون قائل. وخمسة ملايين سامع.. وهكذا صارت الكتابة والقول عملاً كلابياً لا عملاً انقلابياً.. الكتابة في بلدنا عمل غير صالح مثل ابن سيدنا نوح عليه السلام.. ومصر فيها فريقان.. فريق الذين آمنوا ولم يعملوا الصالحات.. وفريق الذين عملوا الصالحات ولم يؤمنوا.. وإيمان الفريق الأول لا قيمة له لأنه لا إيمان بلا عمل صالح.. والعمل الصالح للفريق الثاني لا قيمة له.. لأن الله يجعله هباءً منثوراً. لا أثر له ولا قيمة. فهو عمل للرياء والسمعة والشهرة والذيوع. والأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوي.. الناس في بلدي ماتوا ليقال شهداء. وقد قيل.. وكتبوا ليقال فُصحاء. وقد قيل.. وقالوا ليقال مؤثرين ومبدعين. وقد قيل.. وخطبوا ليصفق لهم الناس ويبكوا.. وقد صفقوا لهم وبكوا.. لكن السوء مستمر.. والفساد يتحدي.. والغباء "علي سنجة عشرة".. ولم يستيقظ النيام ولم يفق فاقدوا الوعي ولم يعتدل العود. فبقي الظل أعوج.. والملأ والنخبة في بلدي عود أعوج.. وسامعوهم وقراؤهم ظل لهم. ولابد أن يكون أعوج. الحمقي في بلدي يتكاثرون ويتناسلون. والعقلاء ذوو البصائر والرشد انقطع نسلهم.. وآيات الحماقة في بلدي لا حصر لها.. ومنها أننا نُلدغ من الجحر الواحد مائة مرة. ولا نأخذ حذرنا.. ومنها أننا دائماً نستبعد الخطر والكارثة والهاوية ونقول في كل مرة: "حلني قول يا باسط.. إإتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.. لقد جادلتنا فأكثرت جدالنا.. هيهات هيهات لما توعدون".. كل العهود استبعد فيها الحاكم والمحكوم الخطر والزوال. والصيحة والرجفة والطوفان.. وأي امرئ عاقل في بلدي يحاول أن يصنع الفلك يمر به قومنا وهم يتغامزون ويسخرون.. فيحطم أخشابه وأدواته ويرمي أفلامه وأوراقه يأساً وقرفاً. وينزوي كارهاً هؤلاء الحمقي والأغبياء ويقول: لقد نصحت لكم. ولكن لا تحبون الناصحين. يذكرني حالنا بقصة خالي رحمه الله.. زمان قبل ألف عام وأنا طفل يعي بالكاد ما حوله.. كنت أسير في المدينة بصحبة خالي هذا رحمه الله.. وكان الوقت في الظهيرة. وكنا في أحد أيام رمضان ونظر خالي فوجد جماعة من الناس يجلسون علي مقهي يدخنون ويشربون الشاي وغيره. فقال ضاحكاً: "تبقي مصيبة لو كان عندهم حق واحنا غلطانين".. ستكون بالفعل كارثة لو أننا نحرق أعصابنا ودمنا ويخرج كلامنا دامياً من قلوبنا. "وفي الآخر نطلع احنا غلطانين وكل هؤلاء الذين يلهون ويلعبون ويخوضون ويلههم الأمل علي صواب". ويذكرني الحمقي الذين يستبعدون الخطر والطوفان وهم خامدون سامدون. بامرأة طيبة للغاية. كانت دائمة المجيء إلي بيتنا وكنا نحبها جداً لأنها تعهدتنا بالتربية والرعاية.. وأذكر وأنا بعد طفل أنني قلت لخالتي "سيدة" كما كنا ندعوها بعض الكلام الذي جاء فيه تحذير من يوم القيامة. ففوجئت بها ترد بعبارة صدمتني. لكنه كان رداً في غاية الطيبة والسذاجة: "والنبي يا بني من يوم ما اتولدنا وهم بيقولوا لنا يوم القيامة.. باينله كدب".. لاحظ أنها قالت: "والنبي".. قبل أن تلقي عبارتها الصادمة.. وأذكر أننا استوعبنا ما قالت وضحكنا لبساطتها ولم نتأثر بقولها.. خالتي سيدة قالت كلامها عن طيبة وسذاجة محببة.. لكن قومنا يستبعدون الخطر والكارثة والطوفان بعلم وإصرار وعناد.. وهو أمر مكروه.. يصيب المرء باليأس والإحباط والقرف.. لدرجة أنني كرهت الكتابة وضقت ذرعاً بالقلم.. "علي فكرة".. خالتي سيدة رحمها الله كانت مواظبة علي الصلاة والصيام.. وحريصة علي أن تدعو الله لنا بالخير والسعادة وطول العمر. * * * * 1⁄4 والحمقي في بلدي هم دائماً ولاة الأمر "وهذا من سوء حظنا ونحسنا" وغضب الله علينا أن يجعل الرأي فينا عند السفهاء. وعلمنا عند الجهلاء. ومالنا عند اللصوص والبخلاء. وأمرنا بيد الحمقي.. وقوتنا عند البلطجية.. ومن الحماقة أننا نحترم المرء اتقاء لشره لا طمعاً في خيره.. وأن السفلة يحظون بالمكانة الكبيرة عندنا ونخطب ودهم خوفاً من لسانهم أو قلمهم.. والذي يخشي المرء اتقاء لشره "ملطوط" وعلي رأسه بطحة. ولديه ما يخفيه من الفساد والفسق "يعني ممسوكة عليه زلة أو ذلة". وكل الكفار حمقي.. وكل المنافقين حمقي.. لكن ليس كل الحمقي كفاراً أو منافقين.. وأخطر أنواع الحمقي هم الحمقي المتدينون.. وهؤلاء هم الذين يعاني منهم الوطن الآن.. لأنهم إن يقولوا. تسمع لقولهم.. وإن يعظوا تتبع وعظهم.. وإذا أنكروا المعروف تنكر معهم.. وإذا عرفوا المنكر تعرف معهم.. هم العدو ولكننا لا نحذرهم لأن أي نصاب يستطيع أن يجرنا خلفه ونحن معصوبو العيون حين يربطنا بحبل الدين.. ونحن قد نُلدغ من جحر الكفر الصريح مرة واحدة. لكننا نأخذ حذرنا بعد ذلك.. لكننا نُلدغ من جحر النصب بالدين مائة مرة. ولا نعي الدرس أبداً.. ونموت لدغاً ونحن نظن أنه موت في سبيل الله. ولأننا حمقي فإن تاريخنا السييء فقط هو الذي يعيد نفسه بأشخاص مختلفين هم أخلاف وأبناء وأحفاد الحمقي الأولين.. نفس اللعبة القذرة تتكرر في كل مرة. لكننا قوم بلا ذاكرة ولا بصيرة.. فقد استخدم عبدالناصر الشيوعيين لضرب الإخوان والتيار الديني.. فهزموه.. واستخدم السادات الإخوان والتيار الديني لضرب الشيوعيين فقتلوه.. واستخدم مبارك التيار العلماني والليبرالي ضد الإسلاميين.. فكانت نهايته علي يد الفيسبوكيين العلمانيين.. واستخدم اللانظام الحالي الإخوان والإسلاميين ضد العلمانيين والليبراليين والفيسبوكيين.. والنهاية معروفة.. وهي انقلاب الإخوان علي الجميع ومحاولتهم الاستئثار بكل مقاعد السلطة.. ويكذب من يقول إن لديهم شرعية شعبية.. فالشعب عندنا لا يعطي شرعية لأحد.. ولكنه ينخدع بكل ما هو ديني. ولو كان عدة نصب. ويسلم قياده بلا بصيرة.. وفاقد الذاكرة والبصيرة لا يعطي شرعية لأحد.. لكنه يصدق أي ناعق وينضم ألي أي مظاهرة تقول: "إسلامية إسلامية".. أو تقول: "ارفع رأسك فوق.. أنت قبطي". الحمقي لا يعرفون التحاور ولا التجاور.. والتنوع عند ذوي البصائر وأولي الألباب ثراء.. والاختلاف رحمة.. لكن التنوع في قرية الحمقي فقر وإقصاء. والاختلاف عندهم مصيبة و"زحمة" و"ضرب جزم" واستعراض عضلات الشرعية المزيفة بحماقة سحب الثقة والاستئثار و"التكويش".. والناخب عندنا لا يعطي شرعية ولا يأخذها.. لا يسحب الثقة ولا يعطيها.. لأن الرشد غائب والسفاهة حاضرة بقوة.. والناخب نفسه هو الذي هتف لكل الحكام "بالروح والدم".. هتف نفس الهتاف لعبدالناصر والسادات ومبارك.. ثم هتف: بالروح بالدم نفديك يا إسلام.. وهتف: بالروح بالدم نفديك يا صليب.. السفيه في كل زمان ومكان لا يعي ما يقول. وهو لا يملك ويعطي في نفس الوقت من لا يستحق.. والذي يهتف: بالروح والدم.. ليست عنده روح ولا دم.. ومع ذلك أيضاً يفدي بهما من لا يستحق. كل العهود في بلدنا وربما إلي يوم القيامة لا تعرف سوي سياسة واحدة.. هي سياسة استخدام فريق منا لضرب فريق آخر.. هذا هو الغباء الذي نعتبره نحن منتهي الذكاء.. لذلك كان التنوع والاختلاف عندنا دائماً مصيبة ومحنة.. ومن يؤمن بعكس ما يؤمن به الخليفة أو الحاكم.. فإن الخليفة يستعين بفريق آخر لتكفير من يخالف مذهبه أو رؤيته.. وهناك فريق من المسلمين أفتي بِكُفر الإمام أحمد بن حنبل. لأنه خالف مذهب الخليفة المأمون. ولم يقل بخلق القرآن.. وتلك هي الخطورة والكارثة. فحين يحكم فريق باسم الدين فإن من يخالفه كافر.. وحين يحكم فريق بالاشتراكية. فإن الرأسمالي جاسوس وعميل.. وحين يحكم فريق بالرأسمالية فإن الاشتراكي مارق.. وحين يحكم فريق باسم العلمانية والتنوير وقبول الآخر. فإن المتدين إرهابي. * * * * * لن يأتي اليوم يا أصدقائي: سامي محمد نبيل.. شركة مصر للغزل والنسيج بكفر الدوار. والمهندس إسماعيل العوضي والشيخ الإمام محمود البرام. وهشام شيوي أو شيويل. "أرجو المعذرة والتصويب". والسيد حسين أبوالعطا.. مدير إداري بإدارة شربين التعليمية علي المعاش.. لن يأتي اليوم الذي نلتقي فيه لأن الحمقي لا يتحاورون ولا يتجاورون.. لأن الحمقي تأخذهم العزة بالإثم.. ولأن الحمقي يحكمون الوطن بفكر الفقر وفقر الفكر.. والفقير فكرياً لا يمكن أن يتنازل عن فكرته. ولو كانت خاطئة وكارثية لأنه لا يملك غيرها.. تماماً مثل الفقير مالياً لا يمكن أن يتنازل عن جنيه ولو كان مزيفاً. لأنه لا يملك غيره. ولأن المشهد كله يحكمه ويقوده الحمقي بكل انتماءاتهم وأطيافهم وألوانهم. فإن الوطن ماض بسرعة الضوء إلي الهاوية.. وليس بمقدور أحد أن يقف في "سكة قطار" الحماقة الذي ينهب الأرض نهباً. ويطوي الطريق طياً إلي محطة الهاوية.. فالواقف في وجه قطار الحماقة هالك لا محالة. .. والكتابة في زمن الحماقة عمل كلابي لا انقلابي.. والسباحة ضد تيار الحماقة نهايتها الغرق المؤكد. .. الحمقي في وطني يمدهم الله في طغيانهم يعمهون.. لذلك أمدهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيراً. ولكي تعرف أن الحمقي هم سادة المشهد. وأهل القمة. ما عليك إلا أن تتأمل سفاهة وتفاهة وضحالة كل ما يتولي أمراً في هذا البلد.. المقاعد كلها في وطني احتكرها الحمقي والرويبضة.. لأن الأحمق الأعلي يأتي بالأحمق الأدني حتي صار تقديم الحمقي وتصدرهم منهجاً خالصاً في وطني. ربما منذ عهد المماليك. حين كانت المناصب تشتري بالفلوس. حتي منصب القضاء.. كان منصب القضاء يدخل المزاد. حتي أن شخصاً ما رسا عليه المزاد بثلاثة آلاف دينار. وقبل تنصيبه ظهر شخص آخر دفع أربعة فذهبت إليه خلعة القضاء ومقعده.. يحدث هذا وأسوأ منه الآن.. ولا يختلف الأمر سواء تولي الأمر متدينون. أو إسلاميون. أو مسيحيون. أو ليبراليون. أو علمانيون. أو مثليون.. فالكل في البداية والنهاية يجمعهم الحمق.. وتجمعهم علامة الساعة التي نعرفها جميعاً وهي أن يوسد الأمر. أو يتولي الأمر غير أهله.. والسيناريو الرباني لن يتخلف أبداً ولو اجتمعت الإنس والجن علي محاولة تغييره.. وإذا أردت أن تعرف الأحمق الذي يدير ويحكم فإنني أعطيك أهم صفة فيه. وهي أن العزل يقتله والولاية تحييه.. الولاية ترفعه. والعزل يضعه.. يستوي في ذلك الملتحي "والأجرودي".. الخشن والأملس.. المنتقبة والسافرة.. لذلك لعق الإخوان كل تعهداتهم بالتجاور والتحاور وعدم الإقصاء.. سقطوا مثل أي أحمق في بلدي في عسل السلطة. وحلواء الدنيا.. والحكم في بلدي يصعب توليه ويصعب تركه. كما قال الرئيس السابق حسني مبارك.. يصعب ذلك علي الإخوان والسلفيين والعلمانيين وغيرهم من المذاهب. والنحل.. وعندما يصبح الحمق وباء يري من هب ودب أنه قادر علي حكم مصر.. وأن حكم هذا الوطن أسهل من "شكة الدبوس".. كل هذا لأن مصر هانت علينا.. لأنها صارت رخيصة عندنا حتي أن أي تافه يري نفسه أكبر منها وأقدر علي قيادتها.. ووسط هذا الجو الملوث وتلك البلادة.. ووسط قافلة الحمقي التي تسير آمنة مطمئنة تصبح الكتابة عملاً كلابياً لا انقلابياً!!! نظرة *خبرتنا عبر التاريخ سيئة مع من يحكم أو يقود أو يتولي أمراً.. والهجوم علي من يقود أو يحكم أو يتولي منصباً عندنا ليس شرطاً أن يكون بالحق.. لكننا نراه دليلاً علي الشجاعة سواء صدقنا أو كذبنا.. وفي مصر يظل المرء في نظرنا ملاكاً إلي أن يتولي أمراً. فيتحول عندنا إلي شيطان.. ويظل جيداً إلي أن يصبح وزيراً أو رئيساً أو مديراً. فيتحول في المنصب إلي "حرامي".. وعندنا مبدأ لا نحيد عنه.. وهو أن المعارض للحاكم أو الرئيس شجاع. وأن الموافق منافق.. وهذا يفقدنا المصداقية في كتابتنا وقولنا.. ولست أدري هل فعلاً يتلوث المصريون بالمناصب. فيستحقون الهجوم.. أم يلوثون هم المقاعد. فيستحقون الهجوم أيضاً؟!.. أم أنها كراهية متوارثة لمن يحكم ويقود حتي إذا عدل؟!.. ويقال إن أي سيارة تشتريها "علي الزيرو" تفقد نصف ثمنها بمجرد أن تديرها.. تتحول في دقيقة من سيارة "علي الزيرو" إلي سيارة مستعملة.. وأظن أن الإخوان انخفض سعرهم أو رصيدهم إلي النصف بمجرد أن ركبوا قطار الحكم.. وأظن وأرجو أن أكون علي خطأ. إن استمرار أداء الإخوان وعدم وعيهم لما يفعلون.. ونشوتهم بالسلطة سيؤدي إلي مزيد من التراجع. ويفقدون النصف المتبقي من الرصيد.. وتعود معهم وبهم مصر إلي "الزيرو"!!! نقلا عن جريدة الجمهورية