بداية.. نحن نعيش أيام الكلام ! الكل يتكلم ويتناقش وتعلو أصوات وتخفت أخرى، وأصبحت مصر بعد ثورتها كأنها شجرةٌ عملاقة تعج بأعشاش العصافير التي بدأت شقشقتها معا لحظة شروق الشمس، فلا تستطيع تمييز صوت عصفور عن آخر، ولا أن تقدّر أعداد العصافير المشقشقة ! وازدحمت قنوات الإعلام بكل ألوان وأطياف المتحدثين؛ والجميع يتحدثون في موضوع واحد؛ الثورة وما استتبعها من موضوعات أخرى كمحاكمة مبارك، والإخوان في البرلمان، والسلفيين وكتابة الدستور وانتخابات الرئاسة، وتراخي الأمن ووعود المجلس العسكري، وأزمات البوتاجاز والبنزين والسولار، والبلطجية والتحرير ومحمد محمود ومجلس الوزراء والآن العباسية، والشهداء والمصابين، والإضرابات والاعتصامات... ثم انتخابات الرئاسة وتهريب الأمريكان المتهمين قبل محاكمتهم، ووو... كأن المصريين دخلوا طوال ثمانية وخمسين عاما في غيبوبة كالموت، أفاقوا منها بعد الثورة فوجدوا أنفسهم محرومين من الكلام مشتاقين إليه، أو كانوا (في جَرة فطِلعوا برة) ! آه.. نسيت أن أذكر أن هناك نوع من المتحدثين، هم من كانوا يتحدثون أيام مبارك، وكانت تُفرد لهم الصفحات في الصحف القومية والبرامج على القنوات الفضائية، ولا زالوا بعد الثورة يتحدثون، منهم من لا زال يلهج لسانه ذات اللغة وذات الكلمات وذات الهمزات واللمزات، في ذات الجرائد والمجلات والقنوات، ومنهم من تلوّن بلون الثورة وتحدث باسمها. وسهرة واحدة أمام التلفزيون، تنقر أزرار الريموت كونترول، وتتنقل بين البرامج الحوارية ونشرات الأخبار؛ كفيلةٌ أن تظهر لك كيف كنا في غيبوبة من الصمت الثقيل دامت عقودا من الزمن، وضاعت فيها أحلى أيام شبابنا، لكننا الآن سنتكلم.. إن لم تخرج بهذا الإحساس هذه الأيام؛ راجع نفسك واسترجع أيام حياتك عبر ثلاثين الأعوام الماضية، فإن كنت مثلي مولودا أول الستينيات؛ فقد قاربت على الخمسين، وعاصرت عبد الناصر والسادات ومبارك، وبدأت حياتك العملية في عهد الأخير، منتصف الثمانينيات؛ إن كنت كذلك؛ فقطعا تملكتك عبر السنين مشاعر القرف من مرآى الفساد والمفسدين يرتعون ويبرطعون في كل ركن من مصر، وماذا فعلت ؟ سكتّ.. وكنت مثلي خائفا على نفسك وعلى أسرتك وعلى أبنائك وعلى مستقبل حياتك، فسكتنا..
أمام أعيننا تدهورت أحوال كل شئ؛ الأداء والإدارة والمرتبات، وقيمة الجنيه، ومكانتنا ومكانة بلدنا في العالم، والعلاقات بين الناس، والحب والتراحم والأخلاق، وعلت قيمة الكذب والنفاق، والرقاعة والانحلال.. وسكتنا.
والإنسان تهاوت قيمته حتى أصبح بلا ثمن، غرقت العبارات بآلاف العائدين من الضنى وشقاء العمل في الخليج؛ وهرب صاحبها بأمواله وموالاته وموالسة أصدقائه من الحكام.. وسكتنا.
انقلبت القطارات واحترقت وقُتل المئات في حرائقها وتحت عجلاتها، وتصدرت مصر قائمة دول العالم في عدد ضحايا حوادث الطرق، وسادت الفوضى في الشوارع.. وسكتنا.
تدهورت أحوال التعليم على كل مستوياته، حتى احترقنا بنار الدروس الخصوصية والتعليم الخاص، وتعدت نسبة الأمية الحدود الخطرة، والمدارس والجامعات الخاصة أصبحت مجرد مشروعات استثمارية، تدر على أصحابها الأرباح الخيالية، ولا تخرج إلا الجهلاء.. وماذا فعلنا ؟ سكتنا..
وانهارت الثقافة، من حيث كونها عادات الناس المكتسبة، وطريقة تعاملهم مع بعضهم ومع مجتمعهم، وصلت بنا إلى حضيض النكات الجنسية والمسرحيات والتمثيليات والأفلام المنحطة، وأصبح الفاشل الهارب من التجنيد نجما، وتمنى الأطفال أن يصبحوا لاعبي كرة أو مغنين أو ممثلين.. وسكتنا.
أصبح الناس يشتمون أمهات وآباء بعض، ويسبون أديان بعض، ويتمنى المالك موت المستأجر، والفقير يرجو فقر الغني، وساد الحقد والحسد والظلم، ولا يحترم أحد أحداً.. وسكتنا.
أضحت الرشوة المفضوحة أسلوب حياة، والمحسوبية وتعيين أهل الثقة، والولاء لأهل الحكم والسلطة، والواسطة أصبحت ثقافات متمكنة، وأهين المواطن المصري حيث كان وحيثما توجه.. وسكتنا.
بيعت أصول بلادنا وممتلكاتنا وأراضينا ومصانعنا لأبناء (عُرسٍ)، ونهبت الأموال وحوّلت إلى سويسرا والشرق الأقصى مليارات ومليارات.. وسكتنا. قُتل أبناؤنا، وسُجن زهرة شبابنا بعشرات الآلاف، واغتُصبت الفتيات والأمهات في أقسام الشرطة، وأصبحت مكافحة الإرهاب عندنا هي مكافحة كل ذي لحية، وإسكات صوت كل ذي دين.. وسكتنا.
نهب الوزراء والكبراء وسدنة العرش وكهنة السلطة الأراضي والضِياع، وعمّروا القصور ومنتجعات الجولف، وأذلونا وعايرونا بكثرتنا وبما يطعموننا به، و(أجيب لكم منين).. وسكتنا.
نما الخوف في قلوبنا كنبت شيطاني اخترقت جذوره أعمارنا، وزرعناه زرعا في أبنائنا.. فسكتوا وسكتنا.
أبعد هذا كله نتعجب من كثرة الكلام بعد الثورة ؟ كل ما أرجوه ألا يطول أمد مرحلة الكلام، لأن أعداء ثورتنا لا يتكلمون؛ بل يعملون على إفساد فرحتنا بثورتنا، فإن استمرت حالة الكلام لدينا دون عمل؛ فقد حققوا مرادهم، أما إن بدأنا في العمل؛ واحنا بنتكلم برضه ! فسنصبح - إن شاء الله - قادرين على هزيمتهم وإسكاتهم إلى الأبد.. واسلمي يا مصر.