علي مدي الأيام الماضية ومع كشف المستور عن بعض ملفات الفساد كانت تنتابني حالة من الذهول والصدمة فرغم كل ما كان يقال.. ونراه.. ونسمعه.. ونعيشه لم أكن أتصور أن الفساد قد توحش إلي هذا الحد المفزع وتغلغل في الأعماق وفرض سطوته علي البلاد والعباد حتي بات من الصعب حصره.. أو حصاره. كان نهباً منظماً.. وفساداً ممنهجاً حتي صارت الملايين مجرد فكة.. بعد أن سرق الكبار المليارات. وصارت آلاف الأمتار فركة كعب بعد أن وضع الأكابر أيديهم علي آلاف الأفدنة، لكن أكثر ما كان يؤلمني ويوجع قلبي ليس أنهم سرقوا ونهبوا الوطن واستباحوا لأنفسهم أرضه.. وعرضه.. وسماه.. وكنوزه ولكن ما مارسوه علينا من «مَن وأذي». حتي أصبح لدينا شعور متعاظم من «الشعور بالذنب» تجاه وطننا والسادة المسئولين حيث أشعرونا بأننا نعيش «عالة عليهم».. ونمثل «عبئاً ضخماً» فشعرنا بالهوان.. والانكسار بعدما عايرونا بكل شيء.. وأبسط شيء. ألم يكن يعايروننا باللقمة.. «فنحن شعب نأكل عيش كثير.. و.. أنتم عارفين دعم رغيف الخبز يكلفنا كام..؟! و.. إحنا بنستورد قمح قد إيه كل سنة»؟! وتناسوا بإننا نأكل عيش كثير لأن الغموس قليل!! ألم يكن يعايروننا بأنبوبة البوتاجاز.. وإزاي كل أسرة تستخدم أنبوبتين شهرياً تقريباً.. كانوا يقولون لنا خلوا في قلوبكم رحمة.. يعني لازم تطبخوا المشمر والمحمر.. وتستحموا بميه سخنة طيب عقاباً لكم مفيش غير أنبوبة وربع في الشهر لكل أسرة.. واخبطوا دماغكم في الحيط، وتناسوا أنهم لو أمدونا بالغاز الطبيعي الذي يصدرونه بتراب الفلوس لأعدائنا.. ما تسولنا أنبوبة بوتاجاز. عايرونا بزبالتنا.. استنتجوا واكتشفوا أننا شعب غني ومخبيين عليهم من زبالتنا الكثيرة وتناسوا أن هناك آلافا من بني وطننا يقتاتون الفضلات من زبالة البهوات ليسدوا رمقهم هم وعيالهم. عايرونا بأجهزة التكييف وتجاهلوا أن البركة في التقسيط وأننا مجبرون علي البحث عن نسمة هواء صناعي بعدما احتكروا الطراوة الطبيعي وحبسوها في بيوتهم المطلة علي النيل وفي منتجعاتهم الصيفية والشتوية المطلة علي البحيرات وملاعب الجولف بينما نحن هوانا الصناعي مرهون بفاتورة كهرباء مشتعلة دائماً. عايرونا بعدد السيارات التي أصبحنا نمتلكها وتجاهلوا أن معظم حائزيها مقترضون من البنوك بضمان مرتباتهم وأنهم رأوا في فوائد البنوك ناراً أهون من ركوب الميكروباص والأتوبيسات التي تهدر فيها الآدمية وتهان الإنسانية، وأن سياراتنا قد تحولت لأقفاص حديدية نحبس فيها بالساعات حتي يمر السادة البهوات في لحظات. عايرونا بالمدارس الخاصة وتعليم أولادنا للغات وتجاهلوا أننا نحاول أن نقتطع من دخولنا المحدودة ما يمكننا أن نرقع به ثوب التعليم المهترئ متصورين من فرط سذاجتنا أن اللغات قد تفتح أبواب العمل الموصدة في وجه من لا ظهر له. عايرونا بالكلام.. واتهمونا بأننا شعب يعشق الرغي والكلام في التليفونات المحمولة رغم أن الآلاف مقضينها مسدات ورسائل ورنات. عايرونا بكثرة الإنجاب وأن جميع حملات تنظيم الأسرة فشلت في أن تحول بيننا وبين ممارسة هذه الرذيلة!! وتجاهلوا أن ملايين البسطاء يعتبرون هؤلاء الأبناء بعد سنوات قليلة عندما ينهد الحيل ويهزمه المرض هم مصدر الدخل الوحيد للأسرة.. فلا معاش.. ولا ضمان. حتي المرض عايرونا به.. وأنهم ينفقون علينا في العلاج المجاني.. وعلي نفقة الدولة مليارات وتناسوا بأنهم هم الداء الحقيقي في جسد هذا الوطن المنهك وأن الأورام والفشل الكبدي والكلوي وفيرس C صناعة محلية يعود إليهم الفضل في توريدها لأجسادنا. عايرونا بأننا نتمرغ في تراب الميري وأن شبابنا يهوي المقاهي ولا يلحق بقطار العمل وتناسوا أنه لو كانوا قد بنوا المصانع وربطوا بين الدراسة وسوق العمل وتوسعوا في استثمارات حقيقية لوقعنا في عشق المشروعات الخاصة والعمل الحر الذي يمكنك أن تبني من خلاله نفسك لأن أن تئد أحلامك وطموحك فيه إلي الأبد. عايرونا بالطرق والكباري.. والصرف الصحي و.. و.. عاملونا علي أننا متسولون ولسنا أصحاب حق علينا أن نحمد ربنا بما يلقوه لنا من حسنة «ونبوس إيدينا وش وظهر لحسن النعمة.. تزول لو اتبطرنا عليها». الوطن كان غنيمة لهم اغترفوا منه كل ما لذ وطاب ووصلوا إلي حد التخمة.. ورغم ذلك لم يشبعوا أورثوه لحاشيتهم.. ولأشبالهم فقضوا علي البقية الباقية ولم يتركوا لنا سوي الفتات نتقاتل عليه ونقبل بمرتبات لا تتجاوز 400 - 500 جنيه وبمعاش مبكر وعقود مؤقتة وكيلو لحم بدوده وعبارات غارقة.. وقطارات حارقة وقروض تقصم الظهر.. ودروس خصوصية مفترسة لميزانيتنا المتهالكة، وغرقي في بحور بعيدة وأحلام مجهضة وأمراض اجتماعية ونفسية بالجملة وإهدار للكرامة وامتهان للآدمية. لذا عندما نادي شباب الثورة بالكرامة نادي وراءهم الجميع بها فقد شبعنا ذلاً وإهانة.. ومَناً وأذي. وها هو النظام يتهاوي.. وتزول دولة الظلم ونعيش ونتنفس بكرامة.