سينما تخاصم السينما، أو إن شئت الدقة فن ليس له من روح الفن أى وجه قربى أو نسب.. هذا هو ما يمكن أن تسفر عنه تجربة «جيرار كوران» المخرج الفرنسى الذى قدم الناقد «صلاح سرمينى» كتابا عنه واصطحب تجربته الغريبة إلى مهرجان الخليج. يقدم المخرج ما اصطلح أن أطلق عليه «سينما تون» وهى كلمة مكونة من مقطعين «سينما» والمقطع الثانى «تون»، والذى يعنى كما يقول مؤلف الكتاب «التحديق».. العلاقة بين المخرج ومن يصورهم لا تتجاوز أنه يختار عشوائيا بعض الشخصيات ويطلب منهم «البصبصة» فى الكاميرا لمدة 3 دقائق و20 ثانية وهو الزمن الفعلى لعلبة شريط فيلم 8 ميلى التى كان يصور بها المخرج فى البداية أفلامه.. المخرج لا يطلب شيئا ممن يصورهم، لكنه يتركهم أحرارا فى امتلاك هذا الزمن بينما يختفى هو بعيدا.
طقوس المشاهدة تعنى أنك من حقك أن تدخل دار العرض وتغادرها فى أى لحظة وتأكل فيشار وتتحدث مع من يجلس بجوارك وتتلقى تليفونا، كل ذلك مباح.. إنها علاقة بين طرفين أحدهما يحدق ناظرا للكاميرا والثانى يحدق ناظرا للشاشة، لا الأول لديه شىء محدد يريد إرساله ولا الثانى لديه ما يرغب تحديدا فى استقباله!
المخرج يصف نفسه بأنه الأكسل فى العالم، لأنه يترك للمتلقى أن يضيف ما يحلو له ويترك لمن يصورهم أن يحددوا هم كل شىء وبعد ذلك وقبله فإنه لا علاقة له بشىء! عندما بدأت السينما على يد الأخوين «لوميير» لويس وأوجست، صور الاثنان بكاميرا ثابتة خروج فتيات المصنع.. كانت الكاميرا لا تملك أى إمكانيات أكثر من ذلك، لكن تطورت السينما من خلال خطين متوازيين هما تطور الآلة وتطور التفكير الإبداعى.. مثلا المخرج الساحر جورج ميليس الفرنسى أضاف الكثير للكاميرا وكان يلون الأشرطة بيديه.. فى فيلم «مارتن سكورسيزى» الأخير «هوجو» تناول جانبا من حياة «ميليس»، وفى دورة مهرجان «كان» الأخيرة عرض فيلمه «الصعود للقمر» الذى أخرجه عام 1902.. كان هناك دائما وجهة نظر وخيال وهكذا دخل إلى التاريخ المبدع الذى يضيف بفكره مستغلا ما تستطيع الآلة أن تحققه له من إمكانيات، ومع الزمن وصلنا إلى سينما الأبعاد الثلاثة ولن تتوقف المسيرة بينما جيرار يريد أن يعود إلى عام 1895، وتحديدا 28 ديسمبر عند عرض أول فيلم فى مقهى «الجراند كافيه» بباريس وهو خروج فتيات المصنع، والحقيقة أن الأخوين «لوميير» لم يتركا الكاميرا بل قررا التفكير والاختيار ثم التصوير والعرض، ولم يكن الأمر عشوائيا.. عندما تُصور قطارا يخرج من المحطة فلا يمكن اعتبار أن الأمر ارتجالى، لأنه اختار لحظة فارقة أدت إلى فزع الجمهور وقتها الذى تصور أن القطار فى طريقه إليه ليدهسه.
هل أى خروج عن المألوف هو فن؟ الإجابة بالقطع هى لا.. يجب أن يحكم كل شىء المنطق، الفنان التجريدى يملك وجهة نظر تتجاوز حدود التشخيص، لكنه لا يترك الفرشاة توجه ضربات عشوائية على اللوحة، مكتفيا بأن المشاهد سوف يضيف ما يحلو له.
حتى تجارب تقييد الزمان والمكان فى السينما، التى شاهدناها مثلا فى الفيلم البريطانى «12 رجلا غاضبا» لسيدنى لوميت الحاصل على الأوسكار فى نهاية الأربعينيات، وما قدمه صلاح أبو سيف بعد ذلك فى فيلمه «بين السماء والأرض»، حيث كان الزمن فى الفيلم الأول محدودا بإطار الواقع وهو مداولات هيئة المحلفين وكان الزمن فى الثانى محكوما ببقاء ركاب المصعد فى أثناء إقامة مباراة كرة القدم.. الزمان والمكان كانت هناك ضرورة درامية لتقييدهما، وفى نفس الوقت كانت هناك نظرة ووجهة نظر يريد المخرجان توصيلها إلى الجمهور.
المخرج جيرار فى التجربة التى شاهدت جانبا منها لم أشعر أننى بصدد مبدع، لكن فقط هناك من يحاول أن يحطم القاعدة بحجة أن هذا نوع من الإبداع الذى يجعل المتلقى يضيف من عنده للصورة أشياء.. لو قلنا إنه التوثيق فإن الأجدى أن نلتقى مع من نريد رصد حياته ونبدأ فى إجراء حوار ونمسك بمفردات الزمن، لكن أن نصور فقط لمجرد التصوير، وأن نحدق فى الشاشة لمجرد التحديق لم أستسغها، وأعترف أننى عجزت عن ذلك.. حتى من زاوية الفنون جنون، فأنا لم أجد فى هذه التجربة سوى الجنون!