لا أقصد إطلاقا من العنوان أن يكون الدكتور محمد البرادعي هو الذي يجب أن يقود الثورة المقبلة على نظام مبارك. بل أقصد أن يكون هناك شخص آخر بنفس مواصفات الدكتور البرادعي يضع نفسه بين جيل الثورة وقواها السياسية الجديدة لممارسة فعل ثوري متواصل لإسقاط نظام مبارك والإطاحة بالدولة العميقة التي تربعت على عرشها مجموعة من الأوغاد تناضل الآن من أجل البقاء وتعميق تلك الدولة العميقة أصلا. من الواضح أن الدكتور محمد البرادعي لديه أسبابه لا في عدم الترشح لمنصب الرئاسة فقط، بل وأيضا لعدم النزول إلى الشارع والجمع بين مجموعة النخبة التي تحيط به وتتناقش وتتحاور معه وبين القوى الجديدة الفاعلة في الشارع المصري. هناك أسباب ألمح إليها الدكتور البرادعي في أكثر من مناسبة. وبالتالي، لا يمكن أن نجبر الرجل الموجود في الواقع على خطوات يراها غير مناسبة الآن. كل ما في الأمر أننا نبحث عن شخصية افتراضية لها نفس الصفات والإمكانيات والقبول. هذا إذا اتفقنا من حيث المبدأ على أن ما يجري في مصر منذ 25 يناير 2011 ثورة وليس مجرد تمرد يطالب بإصلاحات. على الجانب الآخر تؤكد كل المؤشرات أن لا الشاطر ولا عمر سليمان سيفوزان بعرش مصر. هناك فقط صراع شكلي بين تياري الفاشية (العسكر والإخوان) ليس للشعب فيه ناقة ولا جمل. ولكن فساد النخب المصرية جرها إلى اللعبة الساذجة ودفع ببعض ممثليها إلى الرهان على الأوهام. هكذا هي سياسة العالم الثالث والأحزاب العتيقة والمعارضات التجميلية المستفيدة دائما من وجود الأنظمة الاستبدادية. أي أن المشهد السياسي القديم يعاد إنتاجه بشكل أكثر فجاجة وانحطاطا. إن الفصل بين تياري الفاشية في مصر يؤدي إلى مغالطات منهجية ووجودية وسياسية، إذ أن فوز أي منهما أو كلاهما هو تدمير كامل لعام من الثورة أسفر عن شهداء وجرحى ومعتقلين وتخريب للواقع المصري. إن فوز أحدهما أو كلاهما يدمر كل طموحات المصريين البسطاء ولا يحقق سوى إعادة إنتاج النظام وترسيخ الارتماء في أحضان المشروعات الغربية والأمريكية والخليجية التي تمكنت جزئيا، عن طريق تيارات الفاشية داخل مصر، من تفريغ الفعل الثوري من مضامينه وتوجيهه نحو تحركات إصلاحية شكلية تستثني القوى الثورية الجديدة وجيل الثورة وتركز فقط على ممثلي تلك التيارات الفاشية التي تضم طواغيت المال وعناصر الأمن والمخابرات والجيش وجزء لا بأس به من النخبة المأجورة، سواء كانت سياسية أو ثقافية. ولا يمكن أن نتجاهل هنا الدور الخطير لقادة الأحزاب العتيقة الذين اعتاشوا على النظام السابق إبان وجود مبارك وأبنائه وطغمته المالية. وهم أنفسهم الذين يلعبون الآن دور يهوذا ضد الثورة والقوى الثورية الجديدة بالاستجابة لمؤامرات واتفاقات ومناورات تياري الفاشية الأساسيين في مصر الراهنة.
إن الصراعات بين نخبتي الفاشية يجب ألا تشكل عامل جذب واستجابة من القوى الثورية الجديدة التي خرجت من رحم الثورة كنتيجة مباشرة لعام كامل من النضال والمواجهة السلمية بين المصريين العزل من جهة وبين القوى الفاشية المدججة بالدين والسلاح والمال والموارد الإدارية للدولة. فعلى العكس تماما، ينبغي أن تدرك القوى الجديدة ذاتها وإمكانياتها وقدراتها على مواصلة الفعل الثوري بكل أشكاله وتتفادي تماما الدخول في صراعات النخبتين الفاشيتين التي تهدف بالدرجة الأولى إلى تمييع الواقع الثوري والمشهد السياسي بالكامل. من هنا تحديدا لا يمكن أن يحكم مصر لا الشاطر ولا سليمان. ويمكن أن نتوقع الأسوأ من قوتين فاشيتين تعتمدان الجمود والرجعية وإعادة الزمن إلى الوراء نمطا متفردا من إنتاجها لحكم مصر.
إن عاما كاملا من وجود العسكر والإخوان في المشهد السياسي المصري، وصراعاتهما الشكلية، كان كفيلا بالكشف عن هويتهما الحقيقية، وفضحهما وتمريغ هيبتهما المفتعلة في التراب. إذن، فقد نجح الحراك الجماهيري في مصر من تحقيق هدفين لا بأس بهما إلى الآن: كسر كل حواجز الخوف والرعب التاريخية المتأصلة في نفوس المصريين، وضرب هيبة الهياكل الديناصورية وهدم التابوهات والأصنام وإسقاط الأوهام الدينية والثقافية والروحية والأمنية وتعرية المقولات الوهمية حول الأمن القومي والخلافة الإسلامية والشرع والشرعية. هذه الأرضية تشكلت خلال عام واحد فقط، ما يشي بشكل أو بآخر عن وعي جمعي فاعل، ويؤكد بلا أي شك أن هناك افتراقا بين هذا الوعي وبين مساعي النخبتين الفاشيتين لإحكام قبضتهما معا، أو أي منهما، على البلاد.
إن ممثل التيار الديني الفاشي، أي ممثل، لن يفوز في أي انتخابات رئاسية حتى ولو أقسم على المصحف بأن يتعهد بأمن إسرائيل والحفاظ على مصالح الولاياتالمتحدة. كما أن ممثل الفاشية العسكرية، ومثلها الأمنية، لن يحظى أبدا بحكم مصر بعد الآن حتى ولو أقسم على كل ما أقسم عليه زميله وشريكه السابق، ومهما استند أي منهما أو كلاهما إلى دعم إقليمي أو دولي أو شعارات مفضوحة من قبيل الأمن القومي أو طاعة أولي الأمر وبعث خلافة الفتح المبين. فأقل ما يمكن أن نصف به ما يجري الآن على أرض مصر وفي المشهد السياسي ككل، هو أنها محاولات أخيرة لإنتاج النظام والإبقاء على مصر المتخلفة والرجعية والمهلهلة التي تم تجريفها لعشرات ومئات السنين. وذلك قبل محاولة الانتحار التي سيقبل عليها التياران الفاشيان في مواجهة بعضهما البعض أو في مواجهة المصريين وطلائعهم الجديدة، إما بحجة الحفاظ على وحدة مصر وأمنها القومي، أو تحت دعوى إقامة شرع الله وبعث دولة الخلافة السعيدة.
هكذا لا يمكن أن تمثل الانتخابات الرئاسية أي خطوة فاصلة على طريق الثورة. ولا يمكن للعقلية التي تتعامل مع هذه الثورة باعتبارها خطوة مهدت للقفز على السلطة (العسكر والإخوان) وإعادة إنتاج النظام، أن تدرك قيمة الحدث أو تنجح في اعتلاء عرش مصر لأسباب كثيرة، أقلها العقلية الجامدة التي تنوي إدارة الدولة. كما لا يمكن للنخب التي لا تزال تتعامل مع ما جرى على أنه مجرد خطوات إصلاحية، أن تفهم معنى الزمن وقيمته أو تدرك مغزى التحديث والمجتمع المدني ودولة المواطنة، والتحولات الاجتماعية التاريخية الشاملة قبل كل شئ. وبالتالي لن يسقط النظام المدجج بالسلاح والادعاءات الدينية والأفكار الفاشية والعنصرية هكذا ببساطة وعلى طريقة المهاتما غاندي. فيجب على الأقل مراعات "فرق التوقيت"! والتحولات السياسية والاقتصادية والهندسة الاجتماعية الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين.