عشية الذكرى الأولى للثورة يبدو المشهد السياسي أمام ثلاث قوى، بثلاث شرعيات، تتنافس وتتفاوض وتتحالف، وأظنها تتآمر في بعض الأحيان. لكل واحدة من هذه القوى أو الشرعيات الثلاث أهدافها وأجندتها ووسائلها للتفاوض أو التآمر أو فرض نفسها على القوتين الأخريين. · شرعية المجلس العسكري في البدء استمد المجلس العسكري شرعيته من كونه لم يتورط في إخماد الثورة بقوة السلاح، أو حماها من القمع كما يروج أعضاؤه لا فرق.. لكن عملياً يكتسب العسكري شرعيته باعتباره سلطة أمر واقع، تحتمي بقوة الجيش العسكرية وقدراته الأمنية والاقتصادية.. كما تحتمي أيضاً باعتقاد شريحة من الناس بأنه الضمانة لحياه آمنة مستقرة، رغم أنني أظن بأن هذا الاعتقاد بات يتآكل تدريجياً بدواعي غياب الأمن ووقف الحال وتزايد الفقر. كان أمام العسكري فرصة تاريخية كي تتحول شرعية الأمر الواقع إلى شرعية ثورية حقيقية تمتزج مع روح الميدان ومطالب الثورة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، لكن العكس هو تماماً ما حدث، تخبط وفشل وتآمر وتحالفات من تحت الطاولة، حتى تآكل الجزء الأخلاقي في شرعيته وبات موجوداً في المشهد بقوة السلاح وتحالف واضح مع قوى الإسلام السياسي، والآن أحسب أن هذه الشرعية مهما امتلكت من قوة فهي إلى زوال تحت ضغط حشود الميادين. · شرعية البرلمان بغض النظر عن الطريقة التي أجريت بها الانتخابات والنظام المشوه الذي تمت على أساسه، لدينا اليوم برلمان تشكل بإرادة شعبية وإقبال واسع من الناخبين، ثم انتقلت إليه جزء من الشرعية الشعبية، ليكون أميناً على تشريعات الثورة.. رقيباً على السلطة التنفيذية، وإن كنت أؤمن بأن عزوف الإخوان المسلمين عن تشكيل حكومة تنفذ مطالب الثورة ينتقص كثيراً من هذه الشرعية قبل أن يكون خيانة للناخبين والمسئوليات المترتبة على اختيارهم في البرلمان. أحسب أن شرعية البرلمان ملتبسة ، حائرة بين تحقيق مطالب الثورة وجماهير الناخبين من ناحية، وبين الالتزام بتحالفات واتفاقات أبرمتها الأغلبية الإسلامية من خلف ظهر الجميع من ناحية ثانية،.. هذا ليس حكم متعجل بل يستند إلى شواهد عديدة، من عزوف الإخوان المسلمين عن تشكيل الحكومة، إلى التصدي لدعوات نقل السلطة للبرلمان، ثم الموقف من الميدان والاحتفال واستمرار الثورة، وغيرها سنرى منه الكثير خلال الأيام المقبلة. · شرعية الثورة والميادين تتشكل هذه الشرعية من قوى الثورة المرابطة على تخوم الميدان، والتي رغم كل ما تعرضت له من تشويه وتحوين ومطاردة وابتزاز لا تزال قادرة على إعادة مسار الثورة بقوة الصمود، و ضغط الحشود، وأحسب أن قدرتها على إعادة الملايين للميادين في ذكرى الثورة الأولى هو أكبر دليل على أنها القوة الحية والشرعية الحقيقية للثورة حتى وإن نازعتها القوتين الأخريين أو تآمرت عليها ولطخت سمعتها. مشهد الملايين التي عادت إلى الميادين في ذكرى الثورة يقطع بأن للمواطن المصري في هذا المشهد صوتان، صوت انتخابي اختار بحرية برلمانه،.. وصوت احتجاجي ثوري خرج للميادين ليؤكد أنه السيد والقائد ومانح الشرعية لمن يشاء،.. وهذا معناه أن شرعية الميدان هي الحق والحقيقة القائمة الآن، وهكذا أيضاً هي شرعية البرلمان، وفي تكاملهما لا بد ستضطر وتُرغم شرعية الأمر الواقع على الانسحاب والعودة إلى حيث مكانها الصحيح في الثكنات وعلى الحدود. لا ينبغي أن تلغي شرعية البرلمان، شرعية الثورة أو تقصيها أو تدعي الوصاية عليها، فزمن الوصاية انتهى، والثورة لا تزال مستمرة طالما بقيت مطالبها في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية محل مراوغة والتفاف وتآمر. وفقاً للمنطق الثوري الذي جرى انتخاب البرلمان في أجوائه وتحت إلحاح مطالبه، يجب على البرلمان أن يتخير موقعه إلى جوار الشرعية الثورية أم في حضن شرعية الأمر الواقع . لو أراد البرلمان أن تتوحد شرعيته مع شرعية الميادين، لو أراد أن يكون للشعب صوت واحد لا صوتين، فليس أمامه إلا أن ينتصر لشرعية الثورة بتشريعات تبدأ بمحاكمات ثورية سياسية للنظام ورموزه، وقوانين تحقق العيش والحرية والكرامة الإنسانية. كل الذين اختاروا نواب البرلمان لهم في مطالب الثورة مقصد وهدف، فالحالم بإقامة العدل وتأسيس دولة القانون، ينبغي أن يرى برلماناً يقتص من المجرمين الذين قتلوا وسحلوا الثوار ولا فرق هنا بين مجرمي نظام مبارك وما بعده. بين من قتلوا الثوار في موقعة الجمل أو موقعة ماسبيرو ومجلس الوزراء ومحمد محمود، ... من يبحث عن العيش الكريم والعدالة الاجتماعية يجب أن يرى قوانين حقيقية لا مجرد شعارات ومناورات، وإلا فلا معنى للثورة ولا معني للبرلمان وشرعيته. أخيراً.. على المرابطين في قلب الميادين أقول ينبغي أن تحافظوا على شرعيتكم الثورية، فهي الباقية، إذا خان البرلمان أو التف العسكر، فشرعية الميدان يجب أن تبقى حاضرة يقظة حارسة لا تعبأ بقوة سلطة الأمر الواقع، أو سطوة الأغلبية الإسلامية إذا تمسكت بقانون الغلبة والمغالبة.