سارت ثورة يناير في طريق متعرج نحو إدراك طبيعة الواقع السياسي في مصر وأعداءها الحقيقين والمحتملين، وهو أمر طبيعي لحراك إجتماعي في مجتمع أفتقد العمل السياسي لعقود، وتربعت فيه على غالبية مقاعد المعارضة مجموعة من الفسدة المرتزقين، حتى وصلت عبر طريق من الآلام والمحن إلى إدراك حتمية تحويل مصر من مجتمع عسكري إلى دولة يحكمها القانون المدني ومؤسساته، أي أنها وجدت نفسها في مواجهة المجلس العسكري، هذا إذا كانت ستسير في طريقها لتحقيق آمالها وتطلعاتها. النخبة البيروقراطية العسكرية تستمد قوتها من مصادر ثلاث: الأول خارجي: معلن ويتمثل في دعم الولاياتالمتحدة وإسرائيل وآخرين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر كالدعم المادي الهائل الذي تتلقاه بعض القوى السلفية، فيرفعون أعلام السعودية وهم يهتفون: لا نقبل بغير المشير أمير، يأتي ذلك الدعم لسببين: الأول كون تلك النخبة هي الحافظة المؤتمنة على استمرار تبعية مصر سياسيا وعسكريا للولايات المتحدة والتنسيق المستمر مع إسرائيل خدمة لمصالح الأخيرة في المنطقة، والثاني يأتي من خشية السعودية من امتداد نيران الثورة إلى أراضيها، فمصر كانت دائما منبعا لأحلام الثورة والتغيير، ومن أحسن من رجال مبارك لحفظ نظامه مستمرا؟ الثاني داخلي: ويتمثل في بعض القوى التي تريد أن يظل العسكر حكاما دائمين، إما بحكم المصلحة المباشرة ككبار رجال الأعمال الذين تكونت ثرواتهم وتربت في عهد مبارك، المثال البارز لذلك المجموعة المديرة لحزب الوفد، وينضم اليهم كبار رجال البيروقراطية الدواوينية في المواقع المختلفة، ومن ناحية أخرى هناك قوة أكثر انتشارا وأشد تأثيرا وهي الطبقة الوسطى التي تخشى من الفوضى وثورة الجياع التي تراها دانية وتطلب الأمن والحزم ضد الفقر والجوع بدلا من الخبز والعدل. الثالث : يتمثل في القوة الاقتصادية الهائلة للنخبة العسكرية الحاكمة فهي تتحكم في ما يزيد عن ثلث الناتج القومي في مصر، لعل ذلك يفسر قدرتها على (التبرع) بمليار دولار للحكومة المصرية من (خزينتها) ولعل ذلك يفسر رفض تلك النخبة كشف ميزانيتها للسلطات المدنية التي يفترض أنها ترأسها، لعل ذلك يفسر شراسة التمسك بالسلطة. الثروة التي تتحكم فيها النخبة العسكرية الحاكمة تأتي من ثلاث مصادر، الأول هو مخصصات الميزانية العامة للجيش، وهي تقدر بحوالي 15% من مجمل الإنفاق العام! والثاني عمل ملايين المجندين المجاني خلال فترة تجنيدهم وعبر عشرات السنوات كعمال زراعيين أو صناعيين أو خدميين في مؤسساتها المختلفة، كيف كان سيكون الحال لو دُفعت أجورا عادلة للمجندين مقابل عملهم؟ والثالث هو من المنحة العسكرية الأمريكية والمقدرة ب 1300مليون دولار سنويا، التي يذهب جزء كبير منها إلى جيوب النخبة العسكرية عبر مسميات مختلفة بعلم ومباركة الجهة المانحة. الصدام المحتم بين قوة الثورة والنخبة العسكرية الحاكمة يأتي في سياق الآتي: 1-عدم وجود إي غطاء سياسي لدى النخب العسكرية الحاكمة يبرر شرعية وجودها على رأس السلطة. ماحدث في تونس ومصر واليمن ليبيا وسوريا، أي في الجمهوريات العربية العسكرية ما هو في حقيقة الأمر إلا ثورة شعبية ضد حكم الجيوش، بعد أن محيت الشعارات الثورية وحل محلها قيم الفساد والتبعية للغرب وللرجعية العربية، وبدلا من عبد الناصر جاء مبارك وبدلا من عبد المنعم رياض جاء طنطاوي، أنه عصر زوال حكم الجيوش، حتى في البلاد التي لم تثر ضد حكامها العسكريين مثل العراق والسودان، فقد أصابهما الدمار تحت حكم العسكر وتم تقديمهما لقمة سائغة هنية لذئاب الاستعمار العالمي. والجزائر، هل كانت تحدث فيها كل تلك المذابح والآلام لولا حكم العسكر؟ 2-أن ما تدعي النخبة العسكرية أنها تملكه هو ملك للشعب المصري وحق خالص له، عدم الوفاء بهذا الحق يضع تلك النخبة في وضع المعادي الطبقي المستغل لفقراء المصريين. كما أنه يستخدم وضعا دستوريا وقانونيا –هو واجب التجنيد الإجباري- لتحقيق المكاسب المادية لصالح فئة قليلة، وعمل المجندين في دور الإحتفالات والنوادي والمزارع ومحطات البنزين كعمال خدمة يجعل من هذا الواجب عبئا مذلا وليس شرفا تمليه حقوق الوطن كما هو مفترض. 3-الثورة في مصر لم تقضي على مبدأ التوريث فحسب، ولكنها دفعت إلى الخلف المؤسسة العسكرية الحاكمة وبينت عجزها وضحالة رؤيتها وعجزها عن إدارة الأمور، كما كشفت عن القسوة والاستهتار واللامبالاة التي يتعامل بها "رجال" تلك المؤسسة مع ما يعد أعراف شعبية لاتمس، كما حدث مع بنات الثورة من أحداث يخجل منها ويعف عنها الرجال. 4-أوضحت الثورة –منذ يومها الأول- توجهها الوطني المعادي للاستعمار العالمي والصهيونية، تمثل ذلك بقوة في إشارتين دالتين، الإولى رفض استقبال وزيرة الخارجية كلينتون في التحرير، والثاني إنزال العلم الإسرائيلي من أعلى البرج وحرقه وفرار السفير الإسرائيلي عقبها من مصر. الصراع القادم في مصر، ما بين شعب في حالة من الغليان الثوري، على أرضية من رفضه لاستغلاله بأية صورة كانت، وسرقة موارده، والتسلط عليه، والفساد، والتبعية للاستعمار العالمي، وعلى الطرف المقابل نخبة عسكرية ترعى كل ما تقدم وتكرسه وتحافظ عليه،من مجمل هذا الصراع سيحدث التمايز ما بين تلك النخبة وما بين أبناء الشعب في الجيش عبر طريق طال أو قصر، ولكنه سيكون رهنا بثورة شعب لاحدود لروح الفداء لديه، ليعود جيش مصر جزءا من مؤسسات الدولة لا فوقها.