كنتُ قد بدأتُ سلسلة مقالات عن الفساد بمكتبة الإسكندرية. ولأنني كنتُ موهوما وحالما بأن ثورةً ما قد حدثتْ في بلدنا، فقد ظننتُ أنه سيتم تحقيقٌ ما في وقائع إهدار ملايين الجنيهات، لكن إدارة المكتبة لم تحرّك ساكنا، وكذلك نيابة الأموال العامة، رغم أن جميع الوقائع التي ذكرتُها مدعومة بالمستندات الرسمية، وفيها إهدار بالملايين. منها وثيقة التأمين الجماعي التي تم فيها استغلال صغار العاملين وإجبارهم على أن يدفعوا، دون علمهم، أقساطا مضاعفة ليدفع المديرون الكبار أقساطا رمزية بالنسبة لما يجب عليهم دفعه؛ هذا بالإضافة لإهدار حوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون بسبب إنهاء عقد التأمين الذي أعلنه الدكتور سراج الدين. في وقائع أخرى ورد ضمن حيثيات حكم قضائي منشور في الصحف أن الدكتور سراج الدين أهدر الملايين بسبب دفع مرتبات عدد من العاملين المثبتين مع منعهم من العمل، وقدّر تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات هذا المبلغ بعشرين مليون جنيه فقط في الفترة من 2007-2011. وهناك إهدارات أخرى بالملايين قادمة في مقالات أخرى، وأنا هنا لا أتّهم الدكتور سراج الدين بأي سرقة، لكنه مسئول عن المديرين الذين اختارهم وتحمّل مسئولية الدفاع المستميت عنهم، بل ورعايتهم اجتماعيا بعد اضطرارهم للاستقالة تحت ضغط الثورة! كتبتُ ذلك في مقالات مفصلة، فماذا حدث؟ أُعلن اليوم اختيار الدكتور سراج الدين نائبا لرئيس المجمع العلمي المصري، رغم وجود ما يزيد عن السبعين بلاغا ضد إدارة المكتبة في نيابة الأموال العامة. إذا كان المقصود هو أن تحفظ المكتبة ما بقي من تراث المجمع فهذا ممكن طبعا دون أن يكون الدكتور سراج نائبا لرئيس المجمع، لأن ذلك التراث في قلوبنا جميعا. لا أدري ماذا أقول؟ بالطبع لا يعنيني هنا شخص الدكتور وأخلاقه الخاصة بقدر ما تعنيني بنية النظام الذي لم يتغير حتى الآن. وفقا لهذا النظام، تم إنشاء صفحة على الفيس بوك بعنوان "د/إسماعيل سراج الدين رئيسا لمصر 2011". وعلى الصفحة مقطع فيديو يشكر فيه الدكتور سراج الدين الذين راسلوه على الإيميل لتأييده، ويقرأ أسماءهم، وبعضهم موظفون بالمكتبة، لكن المشكلة التي لا أفهمها أن إحدى الزميلات (لن أذكر اسمها تقديرا لرغبة أصدقائي بعدم نشر أسماء أي من الزملاء) التي أرسلت تأييدها للدكتور، سمعتُها من قبل تذمه وتذم مديرتها (ليس أمامهما طبعا). هذا النظام يجب أن يزول حتى تنهض هذه البلد. يحق لزملائي أن يؤيدوا الدكتور سراج رئيسا لمصر، دون أن ينافقوه ويوقّعوا معنا على طلب جماعي بعزله من منصبه. مع تقديري الكامل لأي مؤيد مخلص ومقتنع بالدكتور سراج. تلك المقدمة كانت لتوضيح موقفنا؛ نحن أبناء المكتبة الثائرين على إدارتها ك"نظام" وليس على "شخص" مديرها. والذي يكشف ذلك النظام أكثر، هو هذا التقرير للجهاز المركزي للمحاسبات، لأنه يثبت فسادا ماليا وإداريا مزعجا، من ضمنه مخالفة شهيرة كتبتُ عنها منذ مارس الماضي على الفيس بوك فسبّبتْ لي أذى كثيرا. يقول التقرير إن هناك قرارا من رئيس مجلس الوزراء (رقم 2070 لسنة 2008) بشأن ترشيد وضبط الإنفاق (يبدو أنه بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية)، والقرار يحظر شراء سيارات الركوب إلا بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء، أما الحالات الملحة والضرورية لشراء سيارات جديدة، فيتعين الالتزام بأن يتم ذلك عن طريق الاستبدال وليس الزيادة، ومن خلال خطة إحلال تعدها الهيئة العامة للخدمات الحكومية، في إطار الضوابط والقواعد المحددة، ومن خلال نظام الشراء المركزي الذي تتولاه الهيئة.. وذلك كله دون إخلال بالقواعد الصادرة في هذا الشأن. ستسألني الآن: أليست هذه القواعد روتينية سخيفة؟ سأقول لك إنها تمثل القانون الذي أقره مجلس الشعب لحماية أموال الدولة، حتى لو كان نظام مبارك يتجاهلها فعليا، لأن الفساد في أي دولة يعني أن تكون لديها كل تلك القواعد، ثم تنتهكها مؤسسة كبرى مثل المكتبة وتهدر المال العام، فماذا فعلت إدارة المكتبة؟ أهدرت مبلغا كبيرا (حوالي 730 ألف جنيه) في شراء سيارة مرسيدس للدكتور سراج الدين بما يخالف القواعد القانونية وفقا للتقرير، الذي ينص على أن المكتبة لم تتخذ الإجراءات اللازمة بشأن طرح عملية الشراء في مناقصة محدودة حتى يتم الحصول على أنسب العروض من الشركات المتخصصة كوكيل معتمد لسيارات نوع مرسيدس، لأنه معلوم أنه يوجد أكثر من وكيل معتمد على مستوى الجمهورية لبيع هذا النوع من السيارات. هناك كارثة أكبر في هذا الأمر، فقد وافق السيد رئيس مجلس الوزراء على تخصيص سيارة لاستخدام مدير المكتبة ضمن خطة الاستبدال لسيارات المكتبة بعد مخاطبة المكتبة للهيئة العامة للخدمات الحكومية، فقامت الهيئة بإبلاغ المكتبة بالموافقة على شراء سيارة بي إم دبليو 4 سلندر موديل 2010 بمبلغ 350 ألف جنيه (مخصصة لدرجة وزير) وتخصص لاستخدام مدير المكتبة. يعني ذلك أن المكتبة حصلت على هذه السيارة من الهيئة دون أن تدفع مليما، بل مقابل سيارات قديمة كانت المكتبة تملكها أصلا، فماذا فعل الدكتور سراج الدين؟ لم يستخدام السيارة البي إم وأبدلها عن طريق الهيئة بسيارة نيسان صني، لم تكن المكتبة تحتاجها أصلا، لتهدر المكتبة ثلاثة أرباع المليون جنيه تقريبا ثمنا للسيارة المرسيدس، بخلاف مصروفات الصيانة والتأمين وغيرها، وفقا لنص تقرير الجهاز الذي طلب من المكتبة إجراء تحقيق وتحديد المسئولية عن إهدار هذا المبلغ في عملية شراء غير قانونية، خاصة أنه كان يمكن للدكتور سراج أن يستخدم السيارة البي إم دون دفع أي شيء. يثبت التقرير أنواعا أخرى من الفساد منها إهلاك السيارة المرسيدس (موديل 2003) التي كان يستخدمها الدكتور سراج الدين قبل المرسيدس الجديدة، تبريرا لشراء الجديدة طبعا، وبالمخالفة لأبسط قواعد الإهلاك التي تضع شروطا لإهلاك أي أصل بأن تستخدم السيارة مثلا لفترة تزيد عن العشر سنوات، أو أن تصبح غير صالحة للاستخدام، أو أن تزيد عن حاجة العمل فتتعرض للتلف.. كما لم يتم إجراء إصلاح أو (عَمرة) للسيارة أساسا، ولم يتم إثبات أي أعطال بها بخلاف أعمال الصيانة الدورية، ولم تتحمل شركة التأمين الخاصة بها أي تكاليف لأي إصلاح؛ مما يدل على أنها كانت بحالة جيدة جدا! وحين تم البيع لم يتم تسديد ضريبة عنها. كل هذه الحقائق ضمن تقرير الجهاز، الذي هو مستند رسمي. الآن أريد أن أسأل سؤالا بسيطا: ما معنى كلمة "فساد" بشكل بسيط وواضح؟ معناها أن تتم هذه الإجراءات في جمهورية مصر العربية، بالمخالفة لقوانينها، وأن يتم تقديم بلاغات لنيابة الأموال العامة عن هذه المخالفات من فبراير الماضي، فلا تصدر النيابة أي قرارات حتى الآن، ولو بحفظ التحقيق. من معاني الفساد أيضا أن يفكر الموظف العام في مصر بهذه الطريقة: أن يركب رئيس دولة الهند دراجة في الشوارع بينما يتنافس الموظف العام عندنا في إهدار أموال الشعب، بدلا من أن يعتبر نفسه خادما لهذا الشعب، لأن العمل العام يتأسس على القدرة على العطاء، وليس الإهدار. يقول بعض المديرين إن الدكتور سراج الدين يأتي بملايين الدولارات منحا للمكتبة من أوروبا وأمريكا، وأنا أقول لهم إن اسم مكتبة الإسكندرية واجتهاد أبنائها جميعا هو الذي يجلب هذه المنح، واسم المكتبة صنعه تاريخ المكتبة القديمة وسحرها، كما صنعناه نحن العاملين دون أن يكون لأحد فضل شخصي على المكتبة، أضف لذلك أن فكرة إحياء المكتبة القديمة بعظمتها تبهر أي جهة عالمية للتسابق في دعم المكتبة التي بنيناها جميعا، دون أن يقلل ذلك من دور الإدارة في نجاحنا جميعا، لكنه لا يعفيها من مسئوليتها عن الفساد الذي حدث في عهدها. نحن نحب هذا الوطن الجميل وتريد تطهيره.