كلمات همس بها شاب عشرينى جلس بجوارى للحظات وأنا أتابع المشهد العبثى فى بدايه شارع القصر العينى ليلتقط أنفاسه ويعود وينطلق مسرعاً قبل أن أستطيع أن أسأله أى درس وعن أى غبى تتحدث ؟ . لا أدرى لما تذكرت لحظتها "سنتياجو" - بطل روايه الخيميائى لباولو كويلهو - عندما كانت تظهر له علامات فى طريقه لترشده .. فقمت مسرعاً خلفه عله يكون علامة يهدينى بها الله الى الحقيقة . على بعد خطوات منى أبصرت شاباً يقع على الأرض المليئة بالحجارة وما أن حاولت الإقتراب منه لأرى إن كان هو أم لا .. حال بينى وبينه عدد لا محدود من الجنود الذين إلتفوا حوله كما لو كان فريسة سقطت بين أيدى ذئاب جائعة .. فيجره أحدهم من قدميه ويقفز الآخر بكل قوته فوق بطنه ويضربه الثالث بآلة حديدية أشبه ب "ماسورة" فوق رأسه لتنفجر منها الدماء .. ولا يتركوه معلقاً بالحياة وأقرب للموت إلا لملاحقة شاب آخر رماه حظه العاثر على مقربة منهم أثناء هربه من مجموعة أخرى .. فأهرع إليه لإسعافه .. وأنا أسترق النظر إلى وجهه .. لا لم يكن هو. وفى عودتى مسرعاً يرمقنى جندى متأهب بنظرة غل وكراهية وتحفز أسقط بعدها متعثراً فى جسد شاب غارق فى دمائه.. أمسح الدماء من على وجهه علّى أعرفه أو علّه يكون ذات الشاب الذى أبحث عنه فأفشل فى قراءة ملامحه التى إنمحت إثر ما تعرض له من عنف وبطش. ألتفت بشدة وهلع وأنا ما زلت راكعاً على الأرض بجواره ناحية منتصف الشارع على صراخ أنثى يجرها جنود ثم يحملونها "مُرابعة" .. لتنفض عبائتها من قسوة الشد والجذب وينكشف جسدها أمام أعين الجميع ويستكمل الجنود جرها والإعتداء عليها متجردين من كل معانى النخوة والرجولة أو حتى الآدمية حتى تسقط هى مغشياً عليها .. وقبل أن اتحرك لنجدتها رايت شاباً آخر يسبقنى بخطوات يجرى نحوهم لينقذها فيعترضه الجنود ويطرحونه أرضاً وينقضون عليه جميعاً ويضربونه بوحشية حتى تدلت رأسه من شدة العنف .. إلا أنهم لم يتركوه إلا وهو لا يحرك ساكناً .. لم يكن هو يهبط الليل علينا وتشتعل المعركة أكثر بين الجنود والثوار .. ولأن نظرى ليلاً ليس كنهاراً .. أرى خيالات بين كر وفر .. أقترب من المستشفى الميدانى ..قد يكون الشاب بداخلها .. طبيباً او جريحاً .. الدماء فى كل مكان .. هذا طبيب يعالج فتاة من جرح قطعى بالحاجب .. وهنا شاب يصرخ من شده الألم فى ذراعه المكسور .. وهنا يتلقى رجل فى عمر والدى أنبوب الأكسوجين فى فمه .. وآخر مصاب إصابة بالغة جعلت الأطباء يلتفون حوله محاولين إنقاذه وهم مذعورين .. إقتربت منه اكثر لأتبين ملامحه أو أسمع صوته الذى مازال يرن فى أذنى منذ الصباح .. يمنعنى أحدهم من الإقتراب أكثر لأن المصاب كان قد اوشك على الوفاة متأثرا بطلق نارى فى البطن بعد أن لمحت وجهه .. لم يكن هو مع تأخر الوقت بدأت أفقد الأمل فى أن أعثر عليه حياً أو ميتاً .. وقررت أن أستسلم للأمر وللتعب ووجع جروحى الذى بدأ يداهمنى وأن أدخل خيمتى لأستريح بها قبل أن يطلع علىّ نهار يوم جديد .. وما إن دخلت حتى وجدت الشاب مستلقياً أمامى على الأرض .. فرحت للحظة لرؤياه وإقتربت منه بسرعة ولكن إستوقفنى صوت أنينه وسخونة دمه الذى أحسست به حين وضعت يدى على صدره النازف .. وأحسست بروحه وقد أوشكت على الإنفلات من صدره .. هممت باحتضانه وسؤاله .. ما هو الدرس .. من هو الغبى ؟ لم يمهلنى الوقت .. كان قد أغمض جفنيه وتوقف عن التنفس .. أستشهد الشاب قبل أن يجيبنى .. إستشهد من أجل وطنه قبل أن يسعد برؤيته حراً .. أستشهد مدافعاً عن حقه فى الحياة والحلم .. نظرت إلى وجهه علّى أجد إجابة لسؤالى على جبينه الطاهر .. أدركت لحظتها أن الإجابة أوضح من أن نبحث عنها فهى هنا فى جميع أرجاء الميدان .. فى وجه وقلب ودم كل شاب وفتاة رأيتهم اليوم .. أولئك الذين يموتون من أجل الحق .. من أجل الكرامة .. من أجل الحرية .. ولو أعيدت إليهم الحياة سيختارون وبدون تفكير الموت مجدداً ألف مرة من أجل الوطن .. هذا هو الدرس .. يا .. طنطاوى ! .